جدلية السلوك
احتدام الجدل بخصوص مساحة الحرية للسلوك الفردي، ونوعية التدخل الاجتماعي لضبط تلك السلوكيات الفردية، ما يزال قائما ومصدر اشتباك على الدوام، فهناك تباين كبير في مفهوم الحرية الفردية، وقدرة البيئة على تقويم تلك السلوكيات، على الإطار الخارجي، حيث ينطلق الاختلاف من مرتكزات أساسية، قائمة على أسس داعمة لكل طرف، في الدفاع عن وجهة النظر.
يستند أنصار السلوك الفردي على امتلاك الحرية الكاملة، لإظهار القناعات الفكرية والسلوكية على الصعيد الخارجي، باعتبارها من الحقوق الأصيلة المتعارف عليها، في المجتمعات البشرية، فالسلوكيات الفردية تعكس في الغالب الثقافة المجتمعية، نظرا لوجود انعكاس متبادل بين ”التأثير والتأثر“ في مختلف المجالات، الأمر الذي يتجلى في نوعية الخطاب، وكذلك طبيعة الممارسات السلوكية، في كافة المراحل الحياتية، وبالتالي فإن وضع الضوابط الصارمة على طبيعة السلوكيات الفردية، يتناقض مع أبسط الحقوق المتعارف عليها، في المجتمعات الإنسانية.
بالإضافة لذلك، فإن الدعوة إلى ضبط السلوكيات الفردية، لا تجد غطاء اجتماعيا في الغالب، فالفرد يمتلك القدرة على التعبير عن قناعاته بالطريقة المناسبة، فيما التحرك لتحديد مسارات محددة للسلوك الفردي، يحرم الفكر من الانطلاق، ويعرقل الجهود الكبيرة لتفجير الطاقات، في مختلف المجالات، لا سيما وأن السلوك الفردي يمثل انعكاسا مباشرا لطبيعة التفكير الداخلي، الأمر الذي يتسبب في إحداث خلل كبير، في بنية التفكير الفردي، بمعنى آخر، فإن ”المحرمات“ الاجتماعية تصيب العقول بحالة من التنويم المغناطيسي، جراء وضع خطوط حمراء بطريقة غير مفهومة، عبر تحديد طبيعة السلوك الفردي، على الإطار الجمعي.
معارضة أنصار السلوك الفردي للتحركات ”الظالمة“، لضبط السلوك الفردي، تنطلق من الآثار المترتبة على تلك الممارسات على النشاط الاجتماعي، خصوصا وأن الفرد يشكل المحرك الأساس للبيئة الاجتماعية، فالجمود أو تحديد السلوك يعطل الكثير من المشاريع الفاعلة على الصعيد الجمعي، الأمر الذي يحدث فجوة كبرى في عملية التوازن بين الفرد والمجتمع، بحيث يتجلى في الخروج عن المسار الطبيعي، والدخول في ”البيات الشتوي“، بخصوص الحركة الاجتماعية، وتعطيل النشاط عبر ”يافطة“ ضبط السلوك الفردي غير المستقيم.
فيما ينطلق أنصار السلوك الاجتماعي، من مبادئ ومفاهيم ثابتة، تقوم في الأساس على تحرير السلوك الفردي من الشوائب، والعمل على إظهار الجانب الأخلاقي، وعدم الانجرار وراء السلوكيات الشاذة، لا سيما وأن التغافل عن السلوكيات غير المنضبطة، يتسبب في الكثير من المشاكل على الصعيد الاجتماعي، مما يستدعي التحرك الجاد لتحديد مساحات واضحة، للتفادي التدخل في الحقوق الفردية المصانة اجتماعيا وقانونيا من جانب، وحماية البيئة الاجتماعية من التداعيات الخطيرة الناجمة عن إدخال سلوكيات شاذة من جانب آخر، ومن ثم فإن الهدف من وضع الضوابط الصارمة، يكمن في ضمان الاستقرار الاجتماعي، والحيلولة دون نخر الثقافة الاجتماعية من الداخل، خصوصا وأن الثقافة الفردية الشاذة تؤثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، على البنية الفكرية المجتمعية، الأمر الذي يتطلب التدخل السريع لخلق حالة من التوازن، بين صيانة الحقوق الفردية، وحماية البيئة الاجتماعية من التخريب، سواء كان واعيا أو غير واع.
الهجوم غير المبرر على الدعوات الساعية، لحماية البيئة الاجتماعية، من السلوكيات غير المنضبطة، يحمل في طياته أهدافا غير ”إنسانية“ أو خبيثة في أحيان أخرى، خصوصا وأن السلوك الفردي المحترم لا يجد معارضة على الإطلاق، من لدن البيئة الاجتماعية، بخلاف السلوكيات الخارجة عن السياق الطبيعي، وبالتالي فإن اتخاذ وسيلة الهجوم على التحركات الساعية، لحماية السلوك الاجتماعي، ينطلق من قاعدة ”خير وسيلة للدفاع هي الهجوم“، من أجل الحصول على التأييد الشعبي، وإظهار ”المظلومية“ الزائفة، لاسيما وأن الفطرة السليمة تقف في وجه مختلف السلوكيات الفردية الشاذة، باعتبارها معول هدم للكثير من المفاهيم والمرتكزات الثقافية السائدة.
تبقى الجدلية بخصوص حرية السلوك الفردي وطبيعة التحركات الاجتماعية المضادة، قائمة ومستمرة، نظرا لاتساع دائرة الخلافات وتباين وجهات النظر، ومن ثم فإن الوصول إلى حلول وسط في ظل الاختلافات الكبيرة، عملية غير وارد على المدى القريب.