فقدان التوازن الفكري والانفعالي
ورد عن أمير المؤمنين ؛ تعرف حماقة الرجل في ثلاث: في ?لامه فيما لا يعنيه، وجوابه عما لا يسأل عنه، وتهوره في الأمور» «غرر الحكم: 4520».
الشخصية المتزنة في حديثها ومواقفها وقراراتها تعد مطلبا وغاية يسعى كل واحد منا إلى الظفر بها، وذلك أن التصويب في ما يصدر منا يجعل شخصيتنا في معيار التقييم الأدائي في أعلى الدرجات والمراتب، ويسعفنا على مواجهة التحديات والصعاب في حياتنا بكل عقلانية ومهارة، متجنبين الخسائر اللاحقة بنا إن تخلينا عن مضمار الاتزان، واتجهنا إلى الخطى غير المدروسة، والتي لا يعقبها إلا الندم، وأمير المؤمنين في هذه الحكمة النيرة يهبنا علامات ومواقف لا يرتكبها إلا من افتقد إلى الاتزان الفكري والسلوكي والانفعالي، إذ أننا في المواقف الحياتية عندما نتعامل بشكل مباشر، أو من خلال الشاشة المرئية نجد إعجابا وإكبارا في نفوسنا لشخصيات يمتاز بانتقاء كلماته، ويدخل في حوارات تبهر الجميع بما تحمله من قيمة معرفية وأسلوب راق يعبر فيه عن وجهة نظره وتصوراته بكل شفافية ووضوح، كما أن المواقف المحرجة والصعبة والمشاكل تظهر حقيقة ما يحمله الإنسان من ضبط للنفس واتزان يساعده على التعامل مع الموقف بهدوء وصبر، حتى تتشكل عنده صورة تامة عن المشكلة وما يمكن أن يقدمه من معالجات يتجاوز بها هذا المنعطف، هذه الشخصيات واثقة الخطى نرغب أن نكون في زمرتهم، وممن يتمتع مثلهم بالهدوء النفسي والحكمة في التعامل مع المواقف والحوارات المختلفة، فكيف يمكننا تحصيل هذه المكتسبات وفق توجيهات أمير المؤمنين ؟
يحدثنا أمير المؤمنين عن آفة تضرب التحكم والضبط في خطانا وكلامنا وتصرفاتنا في مقتل، وذلك عندما يغيب الوعي والحكمة واتخاذ القرار المناسب بعد دراسة متأنية، فالمواقف الحياتية والعلاقات مع الآخرين ورسم الخطوط لتحقيق التقدم والرقي في أهدافنا تحتاج إلى تعقل للأمور، ومتى ما فقدنا المصفي «الفلترة» لكلماتنا وقراراتنا، فاتخذناها في لحظة انفعال أو في وقت نقع فيه تحت تأثير التوتر الناتج عن الضغوط الحياتية، فستكون النتائج كارثية ووخيمة، ونندم عليها كثيرا وقد لا نستطيع التعويض أو المعالجة للأخطاء، فمن يرمي بشرر النار من كلماته ولا ينتقيها، بل يواجه بالقاسية والجارحة منها الآخر ماذا يمكن أن نقول عنه؟!
التعامل بالمناسب في المواقف والحوارات هو من علامات التعقل والنضج في الفكر، فلا يطلق العنان لخطاه وكلماته إلا بعد أن يحرك فكره في الاحتمالات الناجمة عنها واختيار الأنسب والأفضل، وها هنا يشير أمير المؤمنين إلى موارد ثلاثة تعد محطات ومفترق طرق يقيم من خلالها الإنسان المتزن من الآخر المتصف بخفة العقل والانغماس في الجهالة والاندفاعية الانفعالية في مواجهة المواقف، وهذا لا يعني انحصار السفه العقلي «الأحمق» بهذه الصفات وإنما هو إيراد على سبيل التوضيح وضرب الأمثلة ببيان أهم تلك المحطات.
المورد الأول هو إقحام الفرد نفسه في خصوصيات الآخرين ودس الأنف بحثا عن الأسرار والتقاط مجريات أحوال وشئون الآخرين، فيخوض في حديث لا يعنيه ولا يهمه من يوميات من حوله وما تلتقطه أذناه من خفايا حياتهم والاهتمام ومتابعة تفاصيلها، ولو تفكر المرء للحظات في الفائدة المرجوة من تتبع واقتصاص آثار الآخرين وما يهمس به في أحاديثهم وجلساتهم لتجنبه، إذ سيشغل نفسه ويضيع وقته ويرهق نفسه بزج نفسه في أمور لا تخصه، فإطلاق العنان للفضول قد يكون سببا لضياع الإنسان في التدقيق في كلماتهم والبحث عن تفسيرها وربط المواقف المختلفة، والانشغال عن الاهتمام بنفسه ورسم الأهداف التي ترتقي به في عالم المعرفة وتنمية المهارات والقدرات الخاصة.
والمورد الآخر هو إقحام نفسه في محاورات ونقاشات الآخرين، فيبدي وجهة نظره ورأيه في مسألة لم يطلب منه المشاركة في مجرياتها، وهذا يصغر شأنه وينفر منه الآخرون؛ لأنهم يعتبرونه شخصا حشريا يتدخل في النقاشات الخاصة بين شخصين أو أكثر، فالنقاش الخاص وطرح التساؤل في المجموعات الصغيرة يتضمن خصوصية لا يرغبون في مشاركة غيرهم، وعدم احترام هذه الخصوصية وطرح جواب متعلق بسؤال لم يطرح عليه من علامات السفه العقلي والاجتماعي.
وفي الختام يؤكد أمير المؤمنين على ضبط النفس وتجنب الانفعال في مواجهة المواقف الصعبة والمستفزة وعدم اتخاذ القرار المتهور في لحظة غضب يندم عليه كثيرا بعد ذلك، فالإنسان العاقل لا يجازف بالتدخل السريع والمجازفة في المواقف، بل يتأنى كثيرا لتلافي التوتر في علاقاته والإخفاق في تحقيق أهدافه.
?