«ذاكرة الألم» المنبه الخفي وراء الآلام المزمنة
”إن الذاكرة والألم توأمان، لا تستطيع قتل الألم دون سحق الذاكرة“ غادة السمان.
الذاكرة هي من أهم الأمور التي يستند عليها الكائن البشري لتخزين المعلومات والأحداث والحقائق عن تفاصيل الحياة اليومية واسترجاعها في وقت لاحق، وتٌعد هذه النعمة من النعم العظيمة التي يستحق عليها البارئ الشكر.
لطالما آمنت بفكرة أن الذاكرة هي نعمة جميلة تنقذنا في مواقف عدة، خصوصاً عندما تعاملت مع مرضى الزهايمر ورأيتهم كيف يستنجدون اللحظة حتى يتذكروا أبسط التفاصيل في حياتهم، وعندما تحضرهم الابتسامة عند استطاعتهم تمييز أحد أفراد عائلتهم، ولكن في لحظة أدركت بأن قوة الذاكرة قد تعصف بالبعض الآخر من المرضى بلا رحمة لتسلبهم راحة البال وسلامة البدن.
ففي يوم زارتني مريضة تعاني من آلام شديدة أسفل الظهر، وكانت تعلوا قسمات وجهها علامات الحزن وكأن لديها حالة وفاة، فسألتها إذا كانت فقدت أحداً عزيزاً عليها مؤخراً وما إذا كان هذا الألم مرتبطاً مع الحدث؟!
فقالت لي: نعم فقدت زوجي قبل سنة من الآن بالضبط، وبدأت عندي وقتها آلام ظهر خفيفة، وكانت تختفي خلال فترة بسيطة، ولكن الآن فجأة اشتد الألم من غير مقدمات، على الرغم من سلامة الأشعة والفحوصات، وتبين من خلال الحديث بأنها في هذه الذكرى السنوية كانت تتذكر كل التفاصيل التي كانت تجمعها مع زوجها وتعتصر على كل الذكريات ألماً.
كانت هذه الحالة بالنسبة لي وقفة إدراك للخوض والبحث بشكل أكثر عن ”ذاكرة الألم“..
إن بعض المعلومات المخزنة في الدماغ نستطيع أن نعبر عنها بأنها خاملة عاطفياً حتى يتعرض الشخص لمؤثر ينبهها ليحفز نشاطها من جديد.
فغالباً الأشخاص الذين يعانون من الألم المزمن يشعرون بألم شديد مع أقل لمسة خفيفة وسطحية على الجلد، وهذا بسبب التغيرات والنشاط الزائد والضرر الذي حدث في منطقة Basolateral amygdala ”BLA“ في الدماغ.
وأشارت الدراسات لتورط هذه المنطقة في الدماغ لظهور الآلام وفرط الحساسية لدى أصحاب الألم المزمن.
يتم تخزين معلومات منبهات الألم سواء الضار منها أو غير الضار برموز خاصة في ذاكرة الألم في الدماغ، فإذا نشطت في يوم هذه المعلومات المخزنة في الذاكرة أمام محفز ما، فهذا قد يسبب نشاطاً غير اعتيادي في سلوكيات الألم، فقد تتغير شدته أو مدته أو ينتشر في مناطق أكثر في الجسم، وقد يصبح شرساً ولا يستجيب لطرق العلاج التقليدية التي اعتاد على تطبيقها المريض من قبل.
وفي الأحوال المعتادة لا يشفر الدماغ كل المعلومات المسؤولة عن المحفزات الغير ضارة مثل أن يتعرض الشخص للمسة يد خفيفة، ولكن عندما يصبح هناك تغير في المناطق المسؤولة عن الألم وتتغير سلوكياته فيهتم حينها الدماغ بتخزين هذه المعلومات في الذاكرة على أنها ضرر وخطر؛ لأن المريض يتألم ألماً شديداً مع أقل لمسة.
وهذا ما يفسر استغرابنا من بعض الأشخاص في المجتمع لتجنبهم السلام حتى باليد والابتعاد عن الأحضان والتربيت على الكتف، فهذا ليس قلقاً مبالغاً منهم وإنما خوفاً من الألم.
فعندما يشعر الشخص بالألم المزمن لفترة طويلة، فقد تتحول المعلومات الخاملة عاطفياً في الذاكرة إلى إشارات عصبية عاطفية ضرورية، فتقوم بتغيير المعلومات الحسية الجسدية غير المؤلمة لتصبح وكأنها مؤلمة بالفعل حتى تدفع المريض لاتباع وتعلم أساليب وقائية جديدة تحميه أو تدفعه لعلاج هذا الألم.
لهذا يغير الدماغ أحياناً سلوكيات الألم التي تعود عليها الشخص وتعايش معها عندما يتعرض للاستغراق في صدمة أو أمر محزن مثل الفقد والانفصال ومشاكل العمل، ويعتبر هذا التغيير هو إما أسلوب تنبيهي من الدماغ للشخص أو هو طريقة للتعبير عن تغير كفاءة مناطق الدماغ وقدرته على معالجة الأمور بالشكل الطبيعي؛ بسبب الاضطرابات النفسية والوجدانية التي أثرت على ظهور أو تهيج الآلام الجسدية التي كانت مستقرة من قبل.
فلا نستغرب بأن شخصاً لم نلتقه منذ زمن أو رائحة عطر أو موسيقى أو مكان وبلد معين ارتبط بحدث مؤلم قد يهيج آلاماً من الذاكرة لم تكن يوماً في الحسبان.
فالذاكرة مثل أمواج البحر إما تأخذك لمرفأ الأمان بموجاتها الهادئة، وإما تجعلك تتوه من شدة أمواجها في ليلة ظلماء عاصفة.
فدمتم بذكريات جميلة وصحة وأمل..