حينما يكون الفن مرآة للوجود
ماذا لو كان وجودنا محتجبًا بطريقة ما؟ بمعنى، أن معاينتنا للأشياء غِفل، إذ لايسعنا أن نعاين كافة أشكال الوجود. ثمة دومًا ما هو في حيز الغياب/النسيان. إنها لمعضلة بحق. يأتي الفن حينها بوصفه ترياقًا. الفن هو ذاك الذي يكشف جزءًا من الوجود. يشير هايدغر إلى الإبداع الفني بوصفه ذلك الذي يعبر عن حقيقة الوجود. الحقيقة لدى هايدغر تأتي مغايرة عن السياق الذي درج الفلاسفة في استخدامها باعتبارها مرآة للطبيعة، أي أن تتطابق الذات مع موضوعاتها، إنما الحقيقة هي انكشاف/ تجلي/انبجاس للوجود؛ أي أن الحقيقة تعطي نفسها بنفسها بتعبير هسرل. هكذا يتبدى الفن كعملية كشف مستمرة للزوايا المعتمة من الوجود، خلق لا يتغذى من عدمية ذاتية، بل عبر إظهار ما هو كائن بصورة محتجبة. أن نربط بين الفن والوجود يعني أن نضع الفن في سياق أنطولوجي، وبالتالي نزيح اختزالية الفن في البعد الجمالي. الفن قبل - استاطيقي، أي سابق على كل حكم ذوقي أو جمالي. هذه النزعة الرومانسية بحصر الفن في الوعي الجمالي هي ما ينقده غادامير بشدة معللًا أن هذه النزعة تحيل الفن للاغتراب وتبعده عن أفق تاريخانية التجربة الانسانية. تمسك مارينا أبراموڤيتش بمشطين، من ثم تمررهما بعنف على خصلات شعرها تارة، وتضرب نفسها بالمشطين تارة أخرى. ولا تكف عن الترديد ”لا بد للفن أن يكون جميلًا“ كما لو كانت تعاقب نفسها على انتهاك المبدأ الفني الأول. يذهب دولوز في مقاربة مشابهة أن الفن يتمايز عن كل من الفلسفة والعلم باشتغاله في الأفق الحسي. العمل الفني هو ما يبدع أحاسيس جديدة وخلاقة لدى المتلقي، لم يكن ليشعر بها في دائرة اليومي والاعتيادي. هنا بالإمكان الموافقة بين دولوز وغادامير إذا ما اعتبرنا أن الفن هو ذلك التنقيب في المجهول بغية الوصول لكينونة / كائنات إحساسية ظلت رهينة الاحتجاب. كذا قد نلحظ تشابهًا بين دولوز وكانط قياسًا على أن الفن هو ما يمنح الشعور ب ”الجليل“ ذلك المتعذر على الوصف. ثمة اختلاف جذري بين الاثنين رغم ذلك، كانط ينسب الفن لذات «عبقرية» قادرة على إنتاجه عبر وعيها الجمالي ومواهبها المتجاوزة. أي أن الفنان يصنع العمل الفني كما يخبز الطاهي معجناته، ولا يسع المتلقي سوى تناولها وتقييمها. فلسفة كانط الإنسانوية/ الفردانية تجعل من الذات منتهى العملية الفنية كإله ذا خصائص ثابتة يخلق الفن على صورته. دولوز، على النقيض، يحث على ضرورة التجربة: ”جربوا ولا تؤولوا أبدًا“. ”الأسلوب خاصية من لا يملكون أسلوبًا“.
التأويل في هذا السياق بمعنى البحث عن معنى يفرض سطوته على العمل الفني، ويغرقه في بحر الإرهاصات والقيود اللازم اتباعها لتحقيق أسمى قيمة فنية. دأبت البنيوية على خطى سابقتها الشكلانية الروسية على البحث عن معنى العمل الفني في الدلالات السيميائية والإيقاعية، بفارق التخلي عن عنصر الذاتية، «كانطية بلا ذات» بتعبير سارتر. في يوتيوبيا تهدف لإنجاز تصور موضوعي/ علمي يستنطق النص ويدرس خصائصه الفنية بمعزل عن أي اعتبار للظروف النفسية والاجتماعية والتاريخية أو التعريج على القدرة الإبداعية للفنان. تجريدية بحتة تضع الفن تحت رحمة المعايير النقدية، التي بدورها تنمذجت من أعمال فنية سابقة. كل ذلك يتم من خلال تحليل الثلاثية السردية: الزمان، المكان، الذات. الثلاثية التي تشكل هويتنا المتماسكة لدى بول ريكور. هذه الهوية أو الثلاثية هي بالتحديد ما يجب زعزعتها وتشويه أركانها من أجل خلق العمل الفني الدولوزي. الارتحال الدائم عن الذات/ صنع الخط الهروبي/ المجاوزة لحاجز التمثل/ التلعثم في اللسان الخاص. هذا التوتر الحاد والصراع اللا متحدد بين ديونيزوس وأبولون هو ما يشكل الذروة التكثيفية والدهشة الفنية. ”أنا في حرب دائمة مع نفسي“،“في أعماق ذاتك، تمتلك مكانًا آخر ”دريدا. التجريب عند دولوز ليس اعتباطيًا أو تركيبيًا ساذجًا، كما في حال الدادئية ولعب ديشامب بالموناليزا. التجريب هو محايثة أو الكتابة“ مع"، أن تبدأ لا تدري أين ينتهي بك المطاف، حركة جذمورية لا مركز لها ولا غاية. من هنا نلحظ سر افتتان دولوز بلوحات فرانسيس بيكون. الأخير اشتهر بتمزيق لوحاته وبكونه لا يعلم ما سيرسم قبل الشروع في الرسم. تلحظ في لوحاته عناصر المكان بلا مكان، زوايا بلا غرفة، وجوه بلا ملامح، حركة بلا زمن.
ولكن ألا يحيل تعريف الفن بوصفه بحثًا عن الحقيقة أو الوجود إلى تقاطع مع الفلسفة؟ كان نيتشه أول من انتبه لهذا التلاؤم الوظيفي والانقسام المنهجي: ”الفلسفة لغة شعرية“، متمردًا على تيار عظيم أسس له أفلاطون مجد العقل ونفى الفن. أعاد نيتشه توحيد الاثنين معًا في شذراته حتى زهد فيه البعض وعدوه محض شاعر، لكن نيتشه أراد الانتصار لقيمة الحياة على عدمية العقل الذي ”لا يفكر“. الفن يتمثل من خلال ”اللعب“ لدى غادامير. ينخرط كل من الفنان والمتلقي في لعبة تتضمن الأخذ والرد حتى تتم عملية الوعي بالعمل الفني، ونقل التجربة الوجودية. اللعب هو الوسيط المادي/ الشكل الذي من خلاله يتجسد العمل الفني. إذن لا مفر من مأزق التمثيل، وإن كان كل تمثيل تشويه، إلا أنه ضروري لاكتمال العملية الفنية. التخلي عن الشكل بالكامل مستحيل. أشار لذلك دريدا باستحالة مسرح القسوة الذي ابتغاه أرطو، إلا أنه في المحاولة نفسها نصل إلى أقصى درجات الإبداع الفني ونكسر جميع الأنساق. الوسيط المادي هو اللغة التي من خلالها نتحاور وننقل التجربة الوجودية، لكنها أبدًا قاصرة. هذه المفارقة المحيرة في اللغة: أن تفضي إلى كل شيء ولا شيء في آن واحد. بينما يؤمن جويس بإمكانات اللغة اللامحدودة، يقف بكيت في الجانب المناوئ معلنًا عجز اللغة الكامل. الحوار بين العمل الفني والمتلقي في حاجة ملحة لأفق تاريخي يمدنا بالوعي، من المتعذر فهم اللوحة بموضوعية بحتة، أي أن نلغي جميع إرهاصات ذواتنا وأفكارنا ونرى العمل كآلة صماء. نحن نجد كينونتنا في اللوحة، واللوحة تتجسد وتتحق فنيًا فينا. الفارق الزمني هو ما يستدعي التأويل وسد الفجوة التاريخية، فالعمل حامل لدلالات مفتوحة. هكذا يكون العمل في صيرورة مستمرة، لا ينتج فقط، بل يعاد انتاجه على الدوام.
ولكن يبدو الحديث عن الفن كما لو كان ممارسة نخبوية، أو ثرثرة تجد صداها في المنتديات الثقافية فقط. ثمة اغتراب بيننا وبين ذلك المدعو فنًا. جميع هذه المقاربات والمحاولات في تبيان ماهية الفن تشير إلى مأزق فعلي: لم يعد للفن ارتباط بكينونتنا أو تخلينا عن حاجتنا لأحاسيس خلاقة ذات جدة وفرادة. ببساطة، انفصل الفن عن التجربة الحياتية. هل يمكن الحديث عن موت الفنان؟ كلا، الفنانون دائمًا ما كانوا موجودين. ثمة بعض الآراء التي تربط ما بين الفن وبين النهضة المعرفية والاهتمام المجتمعي، لكني أرفض هذه الآراء بشدة ولا أراها تجاوز منطق البساطة والوعظ، مع ذلك فهي مفيدة في وعيها بالإشكالية والإشارة إليها. الفن لم يكن قط منهجية تربوية. ولم يكن المجتمع أبدًا شرط إمكان للإنتاج الفني، فحتى في أسوأ المجتمعات وأكثرها دكتاتورية قد ينمو عملٌ خالد. وليس أيضًا حتمية تاريخية «متى ما تشكل الوعي الطبقي لدى العمال أثناء فترة الرأسمالية، ستحدث الثورة ونؤسس الماركسية فالشيوعية». ما أدعو له بالأحرى هو موت الفن. إذا كان الفن لا يتحقق سوى بوجود حوار يجمع المتلقي مع العمل الفني في فكر غادامير، فأنا أحسب أن هذا الحوار بات ممتنعًا وغير قابل للتأسيس. حدثت قطيعة معرفية في لحظة ما بحيث نشأت عقلية جديدة بالكامل لم يعد بوسعها استيعاب الفن ضمن مبانيها. الأمر أشبه بمحاولة الحوار مع الفضائيين في فلم ”Arrival“، حيث لا لغة مشتركة ولا ماضٍ مشترك ولا شيء مشترك، إنه الغريب الأكمل. تشيأ الفن وصار يقطن المتاحف، وتسلع فصار قيمة اقتصادية، وتغرب فخرج من المجال الخاص والمجال العام. آثار حركة الإصلاح الديني والثورة الكوبرنيكية والثورة الصناعية لم تستبدل فقط قيمة القدسي بقيمة النفعي، وحين انهار القدسي لم تفقد الأخلاق فقط أساسها الداعم، بل أجادل أن الفنون هي الأخرى أصبحت تطفوا في الهواء. كانت الحداثة في حركة مستمرة، العلم لم يني يتقدم، لكن الفن لم يكن بإمكانه مجاراة العالم الحديث. كانت التماثيل أيام الإغريق ترتبط بالآلهة، كذا لوحات مايكل آنجلو وتماثيل دوناتيلو تتعلق بالمسيح وتتجسد في الكنيسة. لكن فجأة تم كسر هذا الارتباط الوثيق بين الديني والفني. حتى حين سعى بودلير لاكتشاف صور حداثية وشكلٍ شعري جديد متجهًا لقصيدة النثر واكتشاف المدينة في أزهار الشر، وحتى حين توالت الحركات الفنية من تجريدية وسيريالية وتكعيبية، كان شيءٌ ما مفقودًا، نسي العالم الفن! حتى الصورة، آخر إبداعات الحداثة والتي كان مؤملًا منها أن تقود الحركة الفنية في العصر الحديث، تم استثمارها في شتى المجالات، إلا أنها خسرت معركتها فنيًا. لا يشاهد الناس تاركوڤسكي، كوروساوا، أو كياراستمي، بل يتحينون الفرصة لحضور أفلام مارڤل الهوليودية. مأسورون بالحركة وبسيميولاكرا أحادية. لقد ”ذهبت لذة البطء“ واستغنى الناس عن الزواج بالاستمناء الدائم. حريٌ بنا أن نعلن بملء الفم: لقد مات الفن، ونحن من قتلناه.
ترى، ما الذي أدى لهذا المنعطف المأساوي؟ تحليلي يحاول الإجابة على هذا السؤال عبر وضع الفن في سياقات أنطولوجوية وأنثروبولوجية واقتصادية تشكل سردية تاريخية للفن. قد يكون تحليلًا هشًا، لكن سأطرحه كمحاولة متواضعة للتفلسف، ولأنه يتميز بطابع الأصالة. مر الفن بثلاث مراحل تاريخية عاش خلالها تحولات وتطورات. 1 - مرحلة الولادة أو المجتمعات ما قبل فنية. لما جاء الإنسان الأول، أو حين تكونت اللغة والوعي البشري والتفكير المركب في الإنسان العاقل «الهوموسابينس» بلغة البرادايم العلمي، وجد نفسه في عالم لا يفهمه، وبدأت الأسئة الوجودية التي تقض مضجعه عن معنى الحياة والوجود والنفس، ومن هنا تحتم ظهور الإله كإجابة شافية تفسر الظواهر المحيرة التي يواجهها. فالكينونة اتصلت بالإله منذ البداية. في البدء كان الإله. لا يكاد يخلو مجتمع من المجتمعات البشرية والحضارات المندثرة عن مفهوم الإله، رغم اختلاف اللغات والثقافات والطقوس والأيدلوجويات. ومن هنا تشكلت حياتهم حول فكرة الإله، واحتاجوا لوسائل يعبرون بها عن ما يختلجهم، فكانت الممارسات والطقوس، وتم السرد والتأريخ عبر الرسم والعمارة واللغة، فنلاحظ مثلًا بعدًا دينيًا في طريقة تصميم الأهرامات، كذلك المايا وغيرهم من الشعوب. فالفن في بداياته اتصف بالبعد التعبيري والبعد الديني، لكن لم يتشكل كمفهوم محدد بعد. 2 - مرحلة الهوية أو تشكل مفهوم الفن. شيئًا فشيئًا بدأت تتمايز الأشكال الفنية وتزداد تعقيدًا، نتائج الممارسات والطقوس التي امتازت بعنصر التواصل والقدرة على أن تتأرضن في مجتمعات غير تلك التي ولدت منها، أصبحت فنًا. أي أن الفن يتميز بطابع العالمية رغم أنه ينشأ في ظروف محلية. أصبح الفن صنعة وله تمثلات وأشكال مختلفة قد تتلاقح فيما بينها وتنتج فنونًا جديدة. لكنها استمرت تعيش بين الناس وتهبهم ذلك الشعور القدسي. 3 - مرحلة الموت أو بدايات القرن العشرين. وهنا أستعين بتحليلات كل من ماكس فيبر وميشيل فوكو. كان مارتن لوثر أول من استبدل الزهد الديني وجعل من العمل فضيلة في حد ذاته، من هنا كان سؤال المنفعة هو بدايات ظهور الرأسمالية الحديثة. النشاطات الجمعية التي يمارسها الفلاحون والتي لربما منحتهم مشاعر جمة، تم استجوابها والسؤال عن مدى فاعليتها في تحصيل أكبر قدر من الأرباح. أي تم اختراع العقل الأداتي: البحث عن أفضل وسيلة لتحقيق غاية ما. ومع ظهور الميكنة والتطور التكنولوجي الهائل تم إشباع هذه النزعة والتخلي عن العادات القديمة. أي التخلي عن كل ما يقف في وجه الرأسمالية. يتحدث فوكو عن كيف ولدت العيادة لعزل ”المجنون“ كممارسة سلطوية اجتماعية. المجنون لا يساهم كأداة رأسمالية فهو لا يعمل، لذا وجب إقصاؤه أو إعادة تأهيله. السؤال الملح هو لماذا لم تحدث هذه العملية للفنانين أيضًا؟ أليس الفن لا يحمل أي قيمة اقتصادية ولا يمكن إدخاله في عملية تبادل الإنتاج وتحصيل فائض القيمة؟ ألم يوصم الشعراء من قبل أفلاطون الشعراء بالمجانين لأنهم يشوهون الحقيقة ويحطون من قدر اللوغوس؟ الجواب يكمن في ذكاء الرأسمالية. تم اختراع المعايير الجمالية والموضة كأنماط «فنية» لاستجلاب المستهلك، الديكور، المتاحف، المزادات، ومن ثم أضحى الفن يخضع لفوردية من نوع ما وتضاءلت قيمته بعد فصله عن الديني. نحن نتكلم عن الموهوبين، المبدعين، لكن أقصى ما نتفاعل به معهم هو الإعجاب والتقدير، لكن الفن ليس إلا شيئًا ثانويًا في مجتمعات تحكمها المادة. دولوز يقول أن الفن لا يموت، إنه يحفظ الأحاسيس والمشاعر ويخلدها: ”سوف يستمر الشاب بالابتسام مرسومًا في إحدى الروايات أو الأفلام، يتوقف الشاب عن الابتسام ولكنه يعود مجددًا إذا رجعنا تلك الصفحة أو تلك اللحظة، إن الفن هو الشيء الوحيد في العالم الذي يحفظ“. ترى، هل نستطيع أن نبدأ تلك الصفحة حتى نعود إليها؟
”المنطقة التي تفصل الدماغ عن الروح تتأثر بالتجربة بشتى الطرق: بعضهم يفقد عقله ويصبح روحًا: المجنون. بعضهم يفقد روحه ويصبح عقلًا: المثقف. بعضهم يفقد الاثنين: المقبول اجتماعيًا.“ بوكوفوسكي
هل نستطيع أن ”نحيا فوق الأرض بصورة شعرية“؟ يبدو الرهان الهايدغري صعب المنال.