أراجيز الطف 51
تظهر أرجوزة الشهيد عبد الرحمن بن عبد الله الأرحبي، في يوم عاشوراء، الحالة المعنوية التي يتمتع بها، أثناء الانحدار إلى ساحة المعركة، فالكلمات التي أطلقها تتدفق منها الكثير من البطولة والفداء، والقدرة على تحمل الآلام، والصعوبات المصاحبة للحروب في الغالب، والاستعداد التام لاستقبال ضربات السيوف وطعنات الرماح، فهذه الجراحات ليست قادرة على النيل من عزيمته الراسخة، ومعنوياته العالية، فالأبيات تحتوي على دلالات كبيرة وعميقة في الوقت نفسه، فهي تكشف القدرة الفائقة على اختراق الصفوف، في ساحة القتال في سبيل نصرة الحق، والرغبة الصادقة لصبغ صحراء كربلاء بدمائه الطاهرة، ومن ثم اللحاق بكوكبة الشهداء، والدخول في ساحة رحمة الله تعالى.
اختار الشهيد عبد الرحمن الأرحبي، في الشطر الأول من الأرجوزة، مفردة الصبر للدلالة على امتلاك القوة المادية والمعنوية، لمواصلة مشوار الجهاد حتى النفس الأخير، فالجهاد يتطلب توطين النفس على الجراحات، وتحمل مختلف أنواع الطعنات، استقبال الرماح بصدور عارية، خصوصا وأن الطرف المقابل متحفز لارتكاب الجريمة الكبرى، عبر إراقة الدماء الطاهرة لسيد الشهداء ، والكوكبة من أهل بيت الرسالة ، وبالتالي فإن إظهار الموقف الشجاع في يوم عاشوراء يتجسد في الأفعال قبل الأقوال، حيث يشكل الانحدار نحو الميدان بكل ثبات وجسارة، مصداقا واضحا على ترجمة الإيمان الكامل بالمبادئ التي يحملها وكذلك الاستعداد الراسخ لبذل النفس في ذات الله وحماية أهل بيت النبوة ، فالركض نحو المعركة بنفس راضية وعدم التردد أو الخوف من السيوف المشرعة، ترجمة صادقة للرغبة في القتال حتى الرمق الأخير، فالشهيد يجد طعنات السيوف والأسنة وسام شرف يتفاخر به، خصوصا وأن المعركة تمثل الانتصار للحق في وجه الباطل والجور، الذي يمثله في جيش عبيد الله بن زياد، الأمر الذي يفسر الاختيار الدقيق لمفردة ”الصبر“، نظرا لقدرتها على اختزال الكثير من المضامين، سواء فيما يتعلق بعدم الخوف من القتال، أو القدرة على مواجهة الجيش الأموي بالجسد العاري، لا سيما وإن الخوف من الموت يجلب العار على صاحبه، ولا يقود للخلود في الدنيا، فمصير الإنسان الموت مهما طال الزمن، الأمر الذي يستدعي اختيار طريق الشهادة للوصول إلى رضوان الله، على الخنوع والهروب من حد السيوف وطعنات الرماح، حيث يقول ”صبرا على الأسياف والأسنة“.
يتطرق الشهيد عبد الرحمن الأرحبي، في عجز الأرجوزة، إلى الغاية الكبرى التي يتسابق عليها الشهداء، وهي الدخول في الجنان، والفوز بالرضوان في دار الآخرة، من خلال التمسك ف ”الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه الله لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى ودرع الله الحصينة وجنته الوثيقة“، حيث يستخدم ”الصبر“ للمرة الثانية في بداية الشطر الثاني، للدلالة على الإصرار، والاستعداد التام لمواجهة المشوار حتى النهاية، لاسيما وأن الجنة ثمن تستحق تقديم الغالي والنفيس في سبيل الفوز به، فالمسلم يجاهد نفسه طوال حياته، ويحرص على الالتزام بجميع أنواع الطاعات، ويواظب على العبادات في أوقاتها، من أجل الابتعاد عن سخط الله، تجنب المعاصي والذنوب وكذلك من أجل كسب الثواب الجزيل، للدخول في الفردوس، بينما الشهادة تضمن الجنة، وتقود صاحبها إلى الخلود الأبدي في الدنيا والآخرة، حيث يجد الشهداء التكريم والتقدير في الدنيا على الدوام، بخلاف الدرجات الرفيعة التي أعدت للشهداء في الآخرة، وبالتالي فإن البصيرة الواضحة للشهيد عبد الرحمن الأرحبي، تقوده إلى التفاني، والتضحية بنفس راضية، في الدفاع عن ريحانة المصطفى ، والدخول في المعركة لنيل الشهادة، التي ستخلده في الدنيا والآخرة، لاسيما وأن الشهادة بجوار الإمام الحسين لا تضاهيها شهادة على الإطلاق، الأمر الذي يفسر تسابق معسكر سيد الشهداء على الانحدار للمعركة الواحد تلو الآخر بمجرد بدء المعركة وزحف الجيش الأموي على معسكر ريحانة النبي ، حيث يقول ”صبرا عليها لدخول الجنة“.
وينقل المؤرخون أن الشهيد عبد الرحمن الأرحبي، استأذن الإمام الحسين في القتال، فأذن له الإمام ، فتقدم يضرب بسيفه القوم وهو يقول:
صبرا على الأسياف والأسنة
صبرا عليها لدخول الجنة