ذلك وعد غير مكذوب
صراع بني أمية وبني هاشم ليس صراعاً بين أسرتين يتقاتلان على مدينة لها رمزية عظيمة ”مكة“، وإنما هو صراع شائك بين خط إلهي وآخر شيطاني، وما ينبثق الصراع الإلهي إلا للحفاظ على الرمزية الإلهية.
كثيرة هي الأسباب التي ابتليت بها الأمة من تمزق طبقي إلى انحدار سريع أدى إلى تلك المواجهة العظمى في كربلاء يوم العاشر من المحرم، هنالك حيث رأس الإمام الحسين على أسنة حراب الحقيقة التي لم تزل إرهاصاتها ماثلة إلى يومنا هذا.
إن مَثَل أهل البيت كنجوم تحرس سماء العقيدة، إذ جعلهم الله القرآن الناطق والصراط المستقيم لكل نفس.
لقد كشفت لنا الأحداث والوقائع أنه كل ما مر الزمان رفرف علم هدى الإمام الحسين، وأصبح حقاً منارة وجامعة للدهر التي لا تنتهي صفوفها ولا تغلق أبوابها.
ولعل أحدنا يراوده خياله ويصور له ذهنه وكأن الإمام الحجة جالساً برفقة نبي الله يعقوب ويسرد عليه فصول مسرحية نينوى المدججة بالدماء الزكية، فأي حيرة يقع فيها حتى يقارن يوسف الصديق مع إخوته الذين غدروا به بيد الغيرة وماذا سيقول ليوسف حين يستمع لرواية الإمام الحجة يوم الأربعين، فيشعر بلهيب النار التي اقتاتت خيام النساء والأطفال حتى خرجت صارخة معولة يوم العاشر من المحرم.
ترى هل سيقول له مجدداً لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا!؟؟
وبأي الكلمات سيعبر يوسف الصديق ليوسف الزهراء عما سيقع بقلبه من عشق كربلاء يوم زاغت الأبصار، وقطعت الأعناق فنحر رأس الحسين وهو حي من القفا؟ أم ترى سيكتفي بالاستعاذة والتسبيح والاستغفار أم سيهوي فيخر وإخوته سجداً!؟
وكأني بالصديق يمد ليوسف الزهراء وثيقة الولاية ليشهد أنها ازدانت بخاتم سيد الخلق محمد المصطفى.
وكأني بقابيل في الجانب الآخر جالساً عند قدمي الحجة منصتاً لروايته الأليمة، فهل ترى كان سيندب حظه أم يبكي خطيئة أخيه الذي طوعت له نفسه قتله بلا ذنب؟!!
نعم كان الحسين وإخوته آيات للسائلين..
حتى قال حرملة «أقتلوا الحسين واطرحوه أرضا يخلو لكم وجه يزيد، ويكون لكم من بعده ملك الري وحكم جرجان»
فلم يشتروه بثمن بخس دراهم معدودة، بل ضلوا عصبة في وجه الطغيان، وأجمعوا أمرهم على نحر رأسه، وقطع كفوف أخيه وحامل لوائه أبو الفضل العباس الذي منعوه عن جلب الماء وحالوا بينه وبين سقاية عطاشى كربلاء.
وعندما أرسلوا واردهم وأدلى بدلوه فلم ير غير رؤوس مقطعة بأرض الطفوف، وعلى الرماح معلقة، ساروا وآل رسول الله سبايا تضربهم الرماح والسيوف.
إن التاريخ كحركة في الصيرورة البشرية، وليس مجرد حكاية يسردها الرواة، ويتسلى بها المستمعون، بل إن التاريخ قانون للبشرية من أدركه أدرك المستقبل.
فمن يريد تغيير شخصيته لابد له من تغيير مؤثراته.
نحن أمام إسقاط عالمي وإسقاط للهوية وللمرجعية وكما قوم لوط هم أول من أسسوا مؤسسة تسوية باطلة في العالم، ينظر إليها الغرب باعتبارها أمراً حسناً، ويريد تحسينه في عيون الخلق،
إلا أن هناك علاقة طبيعية بين البشر علينا أن نجاهد لئلا تنحرف.
إن العبودية اليوم ترتدي حلة جديدة أكثر ضرراً من سابقتها ذلك أنها ترتكز على طرف واحد وهو الإنسان نفسه الذي يعبد شهواته اللامنتهية، ويلهث ورائها على الدوام حتى تكاد تفتك بعقله وروحه.
لذلك لن ترى ذاتك السائدة في هذا العصر فهي ذائبة ومختفية وراء طاغية جديدة تسمى التكنولوجيا، والتي تحكمك من الفجر إلى النحر.
وتحكمك في الطعام والشراب والمنام، بل تحكم حتى أحوالك وحواسك من غير أن تنتبه أنك سجين أجهزة وخوارزميات وشاشات إلكترونية.
بل كل مواقفك وردات فعلك تصبح في نهاية العالم مجرد مصفوفات رقمية.
وبذلك قُتلُت نزرٌ من عاداتنا العظيمة، وجمعٌ من قيمنا المقدسة، وضاعت بين أزقة شوارعنا العتيقة، فبدأت بالتلاشي آخر معالم حضارتنا التي اتسمت عبر العصور بالنزاهة والشرف والحياء ليصبح العري تطوراً وخلع الملابس دليلاً للتحضر، فينسحب بساط الجنة من تحت أقدام الأمهات.
إن الدين ضمان تحفيزي نحو الأخلاق، لأنه يحول الأخلاق إلى حقوق، ثم يحولها إلى مسؤولية.
إن الدين لا يرى الأخلاق كمالات أو مجرد إستحسانات وتألقات، بل يحولها إلى مسؤولية قانونية حقوقية حتى للجنين والميت.
نعم يحول الأخلاق إلى حقوق، فالمذاهب ليست غابات، وإنما طرق تبحث عن الله.
يقول الإمام علي «وعجبت لمن أدرك النشأة الأولى ينكر النشأة الأخرى».
إن تولية معاوية على ولاية كبيرة كالشام بمثابة تشريع حيث وبخه القرآن الكريم ﴿مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ وهذه السلطة جعلت معاوية وأمثاله ينازعون أهل السابقة من أهل البيت ليس في السلطة فحسب، بل في توجيه وتعليم الناس والأجيال ماهية الدين الحنيف من وجهتي نظر متناقضتين أو متضادتين، حتى باتت الأمة تسير في دروب متفرقة تزداد فيها الهوة يوما بعد يوم.
فليس من منقذ لنا من الوقوع في تلك الهاوية المظلمة إلا التمسك بالقرآن والعترة، فإنهم مصباح الهدى وسفينة النجاة.