البيانات الضخمة وعلوم الحديث
منذ أن أطلق جون مكارثي مفردة الذكاء الاصطناعي، وصاغ تعريفها في ورشة العمل التي نظمها عام 1956 في كلية دارت موث بولاية نيوهامشير بأمريكا، ورغم تعدد هبات الربيع الواعد لتواصل إنجازات الذكاء الاصطناعي، وتعثر وتأخر المضي فيه في أكثر من شتاء، إلا أن الذكاء الاصطناعي كمفردة تربعت في أذهان سكان الكرة الأرضية مقرونة بما هو جيد وجميل في مردوده على الناس. وتربع الذكاء الاصطناعي كتقنية وأدوات في عقول وتحت طوع المختصين لتحقيق إنجاز تطبيقات غير مسبوقة في شتى المجالات. ولا بأس ونحن في العالم البعيد عن مواطن تفريخ التقنيات والعلوم، حيث نبقى عادة متأخرين في تطويع التقنيات الأحدث فيما يهم عالمنا ومجتمعنا. وكون التداخل بين العلم والدين، واضحا وجليا في تكاملهما فالعلم يقدم إجابات على الكيف ولماذا، والدين في تكامله يقدم إجابات للمعنى، يحتم استطلاع مواطن تطويع العلوم والتقنيات في كل المجالات. البعض للأسف، وضع العلم في موقع التحدي للدين فيما قدمه من إنجازات، وتناسوا علاقة التكامل بينهما. في هذه الأسطر أقدم مقترحا لتطويع تقنيات الذكاء الاصطناعي والبيانات الضخمة لأرشفة كل مصادر الحديث، واستخدام قدرات البيانات الضخمة في الفرز والتصنيف وإيجاد العلاقة بين الروايات وأشخاصها والأحداث التي حدثت فيه وأماكنها وتسلسل روايتها عل ذلك ينتج خريطة متكاملة للروايات والأحداث والأسماء عبر الزمن.
وتمهيدا لذلك، لابد من الحديث عن تواصل تعالي أصوات أفراد وجماعات ومدارس، للقطيعة مع السنة النبوية والاكتفاء بالقرآن الكريم مرجعية وحيدة في مصادر الرسالة المرسلة للناس عن طريق نبيهم محمد ص. وبعيدا عن المراجعة التاريخية لنشوء هذا التوجه لدى أتباع الإسلام منذ القرن الأول، وتطورها وتوزعها الجغرافي فإن هذه الدعوة تلقى رواجا بين أبناء العالم الإسلامي، في وقتنا الحالي بدوافع مختلفة. ويتمثل أحد الأسباب التي تطرح دعما لذلك هو عدم وضوح ما هو مروي فعلا عن النبي ص وما ليس بصحيح نسبته إليه ص.
أتفهم أن تنطلق مثل هذه الدعاوى ممن ليسوا من القريبين لأجواء الإسلام وأحداثه وتفاصيله والعلاقة بين القرآن والحديث وما يستخلصونه من نتائج تصب في وجود وظائف للسنة النبوية أقلها الإيضاح لبعض الأحكام التي نزلت في القرآن الكريم، ولا تقف الوظائف هنا، بل تصل لتقديم تشريعات جديدة للمسلمين من خلال حديث أو إقرار حادثة. لكني لا أتفهم أن تصدر هذه الدعوات ممن يتجاهلون كل ذلك، ويتجاوزون مفاعيله والقفز إلى المطالبة بعدم الحاجة لكل ذلك لأن الأخذ بالسنة سيؤدي لتناقضات كون في السنة ما هو مفترى وغير واضح المدلول وصعب تعميمه أو تخصيصه.
هناك ثلاثة أمور أوردها قد تكون كلها أو بعضها دافعا من دوافع لتبني توجه التخلي عن السنة والسيرة.
الأمر الأولى يتمثل في أن كثيراً من الدعوات التي انطلقت في القرون المتقدمة كانت من قبل ما أطلق عليهم ”القرآنيون“ من مجتمعات غير عربية. وكون مجتمعاتها غير عربية «الهند وباكستان وإندونيسيا وماليزيا»، فيصعب عليها الاطلاع على التراث الإسلامي إلا من قناة القرآن فقط، سواء كان ذلك للعلماء أو لعامة الناس. فإتقان اللغة العربية هو متطلب إضافي للتمكن من الاطلاع على السنة النبوية، والتي تعثر تدوينها عدة قرون. فهل كانت اللغة حاجزا وسبب اكتفائهم بالقرآن، ويكون اتصالهم مع السنة النبوية محدودا بمحدودية وجود من يتمكن من اللغة العربية منهم!؟ ليس لدي ما اعتمد عليه كدليل على ذلك. والأمر الثاني يرتبط بالكم الكبير من التزوير والتحريف الذي طال الروايات؛ مما جعل من الضروري وجود علم مستقل بالحديث كأحد الأركان الأساسية لفهم الإسلام ومقاصد الشريعة. فأدخل علم الرجال وعلوم دراسة سند الحديث. لكن من يدعو للقطيعة مع السنة النبوية يحتج بأننا بعيدين جدا عن الزمن النبوي، وتراكمت محاولات التحريف والتزوير بشكل كبير؛ مما يجعل الأجيال الحالية بعيدة جدا، ويصعب عليها فرز الأحاديث وتبيان صحيحها من ضعيفها. أما ثالث الأمور، فهو يتعلق بالتجمعات السكانية قبل 150 عاما تقريبا، وإلى زمن الرسالة المحمدية، كانت في معظمها تجمعات قرى منعزلة عن بعضها؛ مما يجعل التواصل بين التجمعات المختلفة عسيرا، وخصوصا التجمعات في الأمصار المتباعدة. وهذا يجعل من الصعب في حال وجود مهتم بنقل الحديث أو روايته أو تدوينه أن يتواصل مع أمثاله في الاهتمامات في بلدان وقرى وتجمعات المسلمين المختلفة. هذا الانعزال القهري، يجعل تبادل الرواية أو الحادثة التي تصل إلى أحدهم وربما يدونها، محدودا في انتقالها إلى أماكن وتجمعات سكانية أخرى. فليس من ضمانة لأن تتواجد كل المعلومات والروايات عند كل المحدثين في البلدان المختلفة. والحال كذلك، يكون من الضروري استحضار الزمن الذي رويت الرواية، أو حدثت فيه الحادثة، كعنصر أساس يكمل عناصر الرواية لتبيان مسار وتسلسل تدوين نفس الحادثة أو الرواية عند رواة في تجمعات سكنية أخرى وأيضا تبيان ما تزامن معها من أحداث أخرى.
نعم، والوضع كما تم وصفه يصبح من الصعب الخوض في دراسة الروايات والأحداث وتبيان الحق من الباطل فيها. وقد تكون الأدوات التي ابتدعها العلماء السابقين مشكورين على جهودهم، واستخدمت من قبلهم، ومن قبل آخرين، هي أقصى ما يمكن أن يعمل للتحقق من الروايات والأحداث. فنصبح أمام خيارين: إما انتهاج ما يتم المطالبة به بالتخلي عن الحديث والسيرة، وكل ما تراكم فيها بما فيها من صحيح وغير صحيح والقطع معها وتبني القرآن مصدرا وحيدا، فلا بد وأنه يكفي ومع التقدم العلمي الذي أعطى ارتقى بمستوى الوعي، وقدم حُزَما من الأدوات والمنهجيات التي يعول عليها لفهم القرآن. أو أن يكون خيارنا الآخر هو تبني معطيات التقنيات والعلوم وأدواتهم ومنهجياتها وتطويعها لتطوير علوم الحديث والسيرة. لكن بعض المتبنين للقطيعة مع التراث النبوي «حديثا وسيرة»، لديهم نزعة في استخدام ما توصل إليه المجتمع الإنساني من تقنيات وعلوم. وهذا يحتم أن نتأمل في إمكانية معطيات العلوم والتقنيات الحديثة التي لم تكن موجودة فيما مضى، ودراسة إمكانية استخدام بعضها مما يناسب، في دراسات الحديث والسيرة.
وقد يقول البعض أن تقادم الزمن، جعل من الصعب تبيان الحقائق وفصلها فالأقدمون لم يتمكنوا من فرز الحقائق وتبيان الصحيح منها من الباطل. وربما يكون لديهم بعض حق. لكني أتصور أن مرور الزمن هو عامل إيجابي لتبيان الحقائق، خصوصا في زمننا هذا حيث توفرت التقنيات التي تجعل من الأحاديث والأحداث التاريخية مادة وفيرة يمكن دوايتها وتحليلها بأدوات الذكاء الاصطناعي كالبيانات الضخمة مثلا، في تسلسل الحديث ورواياته والأحداث المصاحبة له وأشخاصه ممن رواه وسمع به، وأيضا نفس الشيء بالنسبة للحدث التاريخي وأشخاصه وعلاقته بغيره من أحداث. وهذا قد يجعل من الممكن الخروج بخلاصات مختلفة عما كانت فيما مضى. ففي الزمن القديم كان الاطلاع محدودا لدى كل من يتصدى للحديث والسيرة، فترى كل يكتب بشكل مستقل، ويقوم باعتماد أو إسقاط ما يقتنع به منفردا. بينما الآن بالإمكان أن تكون الصورة الأكبر لخارطة الحديث والرواة من كل المصادر بجميع خلفياتها المذهبية والجغرافية ممكنا. ويمكن أن تكون هذه الخريطة الكاملة، مادة خاما لدراسات وتحليل جاد وحديث في الحديث والتاريخ والسيرة النبوية.
ولن أتفاجأ من أن الخلاصات التي سيتم الوصول إليها في تأييد أو تفنيد حديث ما أو حادثة معينة، تتمتع بدرجة من الموثوقية أكبر مما كان متوفرا، ولعل ذلك يقرب ويسهم في الاطمئنان للروايات وأحداث السيرة بما يسهم بدوره في فهم القرآن الكريم وأيضا باستخدام أدوات العلوم والتقنية المتوفرة والمنهجيات الحديثة وإعمال العقل في آيات الله وسوره وقرآنه. نعم، علم الحديث أولى أن تفعل فيه التقنية من أن يتم التخلي عنها. فاستخدام بعض أدوات الذكاء الاصطناعي، والبيانات الضخمة على سبيل المثال، واضح المعالم ومتوقع أن يعطي مردودا مختلفا وجديرا بالمحاولة وبذل الجهود الفكرية والمادية والوقت على أمل كبير أن تتيح نتائج هذه المبادرة خريطة متكاملة للحديث والسنة يمكن قراءتها بشكل أسهل ومعان أكثر وضوحا ربما تسهم في فهم القرآن بشكل أو بآخر كمرحلة ثانية.