الخوذة قبل الشجّة.. حَدَثٌ وحَدِيتٌ ”51“
رَاقَ لِي باستِحسانٍ واستِجوادٍ، أنْ أَركّبَ وأُزَاوِجَ بين صُورتَي هَيأةِ المُفردتَين الذهنيتَين المُتناظِرتَين: ”الخُوذة والشجّة“ حيث يُتاح الخيارُ الأمثلُ لراكبِ الدراجةِ الناريةِ، ببن مَطلبِ أُصولِ السلامةِ، بلبسِ الخوذةِ الصُّلبةِ الواقيةِ؛ لحِمايةِ وسَلامةِ الرأس والجُمجُمةِ، خاصةً عِند التعرّضِ لحادثِ ارتطامٍ واصطدامٍ مُحتملَين؛ أو حُصُولِ الشجةِ الداميةِ المُمِيتةِ… وقد تُكلّف عِندئذٍ، الراكبَ المُتهوّرَ ذاتَه جُزافًا، ثمنَ حَياتِه… ومِن مَحاسِن وبَلاغَة اللغةِ العربيةِ، تهافُت العامة مِن الناسِ، مِن مُتحدّثيها، على استلالِ إذنَ الرخصةِ اللغويةِ السلِسةِ، في تَركيبِ ومَزجِ لَفظتين، عَادةً مَا تكون مُتضادّتَين، في نَسقِ مُقابلةٍ تَصويريةٍ تَوجِيهيةٍ هَادفةٍ، إن صحّ لي التعبير؛ ولعلّ العبارةَ المذكورةَ أعلَاه، هي وَردةٌ وَاحدةٌ، في مَنظومةَ أكالِيل رِزم باقاتٍ مُتعدّدةٍ، دأب غالبية أفراد المجتمعِ - مِن الجنسين - على صِياغَتِها وإِهدائِها طَواعيةً، في مَعرِضِ تَزيِين طَي أحاديثهم الودية إلى الآخرين؛ وفي سِياق مُنعطفاتِ أحاديثِ لِقاءاتهم اليوميةِ المُعتادةِ؛ ولَا أُبالغ قَولًا، إذا أَفصَحت طَوعًا، وأَوضَحت يُسرًا، بأن نسج تلك العباراتِ المزجيةِ يأتي رَديفًا ورِدءً مُساندًا، لصَولةٍ وجَولةِ مَتنِ الأمثالِ الشعبيةِ، التي سَادت وشَاعت رَدَحًا، في أوساط مُجتمعِ الآباء والأجداد…!
وهُناك، في قاعِ جَعبةِ ذاكرتِي المُتواضِعةِ عَددٌ مِن أنضجِ وأصدقِ المشاهِد والمَواقِف التصويريةِ، التي تحظَى بإهداءِ لَقطاتٍ تَوجِيهيةٍ مُشرّفةٍ، كقولِهم: «الجارُ قبلَ الدارِ» ذلك العبَق السّجعي المرادف للعبارةِ الخاطفةِ الهادفةِ تُصوّر بأريحيةٍ، أهميةَ سَماحةِ ولَطافةِ خُلُق الجارِ الجُنُب، المُجاوِر للمَسكَنِ، حيثُ تَرتاحُ لهُ دَاخِلةُ النفسِ؛ ويَحظَى شَخصهُ الحكيم بالثقةِ والقَبولِ؛ ويَنال شرفُه الأَصِيل، بطِيبِ المُحيّا، وحُسنِ المَعشرِ؛ وتحظى سِيرتُه الطيّبةِ بدَماثةِ الخُلُق…! وإذا لم يكن الجارُ كذلك، مِمّن يَتحمّلون ويَحمِلون، دَماثةَ ورَخاوَةَ سَحائب الأخلاقِ الساميةِ؛ وشآبيب السجايا الراقيةِ، انهارت تِباعًا، أواصِرُ العّلائِق والرّوابِط الوثيقةِ بين صفوفِ الجِيرانِ المُتآلِفين عَادةً، وأصبحت أسوارُ المَسكنِ القائمةِ، مُلغّمةً ومَشحونةً، بما يُعكّر صَفو الخاطِر؛ ويَبعث على قِلّةِ الراحةِ، بتوتّرٍ وتشنّجٍ ظَاهِرين بَادِيين، خلف قوائمِ ِالجُدران؛ ومِن وَراء الأسوارِ المُحيطةِ بهم…! ولَا أنس مَا رُوي مِن حَديثٍ شريفٍ، عن نَبيّنا الكريم، عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغُر المَيامِين: «مَا زَالَ جِبرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ، حَتى ظَنَنْتُ أنّهُ سَيُوَرِّثُهُ».* وهُناك مَقولاتٌ شَتّى - في صَميمِ عَقليةِ الثقافاتِ العالميةِ، تُعنَى وتُعلِي مَكانةَ الجارِ؛ وتَرفعُ مَنزلتَهُ؛ وتعظّم شَأنَهُ، جُملةً وتفصِيلًا... ففِي الثقافةِ الروسيةِ: «مَن يَرْمِ الشَّوكَ لَدَى جاَرِهِ، يَرَهُ يَنْبُتُ في حَدِيقَتِهِ».* وأمّا الحِكمةُ النرويجيةُ الرصِينةُ، فتَصدحُ بالقولِ الصائب: «أَحِبَ جَارَكَ، ولَكِنْ لَا تَهْدِم الجِدَارَ الفَاصِلَ بَيْنَكُمَا».*
ومَا يزال طَيفُ نمطِ سَيلِ العباراتِ الشعبيةِ المُتوارِدةِ، يتقاطَرُ ويتساطَرُ، ذِهابًا وجِيئةً، في أعلى ناصِيةِ ذِهني؛ ليتسنّى لِي، بانتقاءٍ واصطفاءٍ، اختَيار واصطِياد أبلغها تداولًا وتأثيرًا… «الأَمانةُ ولَا الخِيانة» ولعلّ ديباجةَ تلك المقولة العقلية الصائبة، تَضعُ قائلَها العاقل؛ وتُذكّر سامعَها الراشد بين خِيارَين مَفصلِيّين، أحلاهُما مُرّ، مع التركيزِ النوعِي الواعِي، والتوجيهِ الألمعِي الساعي، بانتهاجِ مَسلكِ الأمانةِ المُنجِيةِ؛ لمَا فيه مِن السلامةِ، والبراءةِ، والعفّةِ، خارج سلّةِ العُيوبِ الحُبلى، وسَفطِ الآثامِ المُدمّرة المُترتّبةِ على ارتكابِ وإتيانِ مُنزلقِ الفعلِ المَشِينِ المَعِيبِ… وهُنالِك يَتجلّى نُضجُ العقلِ؛ وتسمُو طهارةُ الثوبِ؛ وتعلُو سَماحةُ السّريرةِ؛ وتَرتقَي رَصانةُ الضّمير، بمَا في أصالةِ ”رُوحِ“ الكلمةِ الطيّبةِ مِن مَعنى صائٍبٍ…! ويخطرنِي حَاضِرًا بيتًا مٍن الشعرِ لكعبٍ المُزني: «أَرْعَى الأَمَانةَ لَا أَخُونُ أَمَانَتِي… إنَّ الخَؤُونَ على الطَّرِيقِ الأَنْكَبِ».*
هذا، ومِن الحِكمةِ، ورَجاحةِ العقلِ، وتمامِ إنجاز العمل، على الوجهٍ الأكملِ، أنْ يُعِدّ ويَستخدمَ المِهنِي الحاذِق، كامل أطقم أدوات عمله الصحيحةِ المطلوبةِ، مُسبقًا، مُتبعًا نمط طرائقَ وإجراءات مُتتابعةٍ صَحيحةٍ؛ تؤدّي - في مُجملِها - إلى كفاءةِ إنجازِ العملِ المَعني، في أسرعِ وَقتٍ؛ وأقلّ جُهدٍ، وأفضل أداءٍ مَلحوظٍ... وهي خاصّيةُ سِمة دِقّة الأداءِ الوظيفي المُتخصّص، وُصُولًا إلى دَرجةِ مُرْضِيةٍ مِن الإتقانِ… ولعلّ صِيتَ المقُولةِ التوجيهيةِ الغربيةِ، التي تَهمِس بعُمقٍ؛ وتتجذّر بصِدقٍ، في بؤرةِ حَواسّ الصميمِ المهني المتخصّص، قبل بدء أداء العمل: Always use the right tool... استخدم الأداةَ الصحيحةَ، في عملك دائمًا؛ فالميكانيكِي المُتخصص، تراه ناثرًا ناشرًا أدواتَه المُتعدّدة، على اُهبة الاستعداد، لتكون في مُتناول يده؛ ليُخرج جُزئيةَ العملِ، بيُسرٍ، وسُهولةٍ، وسَلاسةٍ، مُتّبعًا ”كورسًا“ مِن الخُطواتِ الإجرائيةِ اللّازمةِ لكلّ جُزئيةِ عَملٍ، ومِثله عمل الإسكافي، والنجار، والكهربائي، والحداد، والطبيب الجراح… وصُولًا إلى قِمم مَرحلةِ دَرجتَي الجودةِ والإتقانِ المنشودتَين؛ وحِينئذٍ، تتصدّر، بكَفاءةٍ ومَهارةٍ مَلموسَتين، دِيباجةُ نداء المثلِ العربِي البارِع: «أعطِ القوسَ بارِيها».
ومِمّا أتذكّره جيدًا، وأختزنه إدراكًا، في ثنايا جَعبةِ ذاكرتِي المُتواضِعةِ… في بدايةِ العقدِ الثامنِ مِن القرنِ الميلادِي المُنصرِمِ، عِندمَا كنتُ أَدْرِس كُورسًا، في جامعة ”نورث تكساس“ العريقة، لصالِح تخصصي المزدَوج في «اللغة الإنجليزيةِ، والاتّصالِ والخطابةِ الجماهِيريةِ» … وبالتّحدِيد في كورس ”الإتّصال الجماعي“ كنت أُلقي خُطبةً صِحيّةً، عن أضرارِ السُّمنةِ، وتأثيرِها السلبي المُباشِر، على أجهزةِ الجسمِ المختلفةِ؛ وكنت أستخدم عبارةً ”صِنارية“ الثأثِير والتشهِير، مُتبعًا فنيّاتِ التواصل، ومُخاطبًا حَواسّ الجُمهور بعبارة... Fit or fat ”التزم بالّلياقة تجنّبًا لأضرارِ السمنة“ وذلك لِجذبِ انتباهِ ذائقةِ حَواسِ الجمهورِ المُقيّم لخطبتِي؛ لمتابعةِ وإدراكِ سِياق حَبكةِ مَوضوعِ الخطبةِ… والنتيجةُ: كان الاستحسان والثناء شَاهدين على نجاح سَيرِ الخطبةِ وسِياقِها المُترابطِ، وذلك مَا سَطّرته أقلامُ الطلبة والطالبات، وأستاذةُ المادةِ أَنفسُهم، في تعبئةِ بُنودِ الاستماراتِ المقدّمةِ لي، في نهايةِ الخطبةِ، والله ولي التوفيق؛ ومِنه - تبارك وتعالى - نستمِدّ العونَ؛ ونتلقّى الدّعم والسّداد المُؤزّرين…!