الألق في حركة الإمام السجاد التبليغية «3»
تهذيب النفس محور الصحيفة السجادية:
الدعاء عند الإمام السجاد مدرسة تربوية ترسم معالم العلاقة المتألقة بين العبد وربه، وقد احتوت على الأدب الرفيع في الخطاب بما يأخذ بيد الداعي نحو المعرفة التوحيدية واستنارة النفس بتلك المعاني والقيم الأصيلة التي ضمتها مقاطع الأدعية والمناجاة، فكل مقطع يمثل بعدا معرفيا وسلوكيا يتلقفه الداعي ليعجنه مع مداركه العقلية، ويتحلى به في تعامله وتصرفه، فيعد نفسه لتقبل هذه الومضة النيرة والتفاعل معها وتنشيطها في مسيره، فجهاد النفس أو تهذيبها يحتاج إلى بذل جهد كبير منه وامتلاك إرادة قوية تمانع من السقوط في وحل المعايب والنقائص، ولذا سيواجه في طريقه المتاعب والعراقيل وهو معرض للسقوط عند أحد منعطفات الحياة، وما يكسبه القوة والاقتدار في تلك المواجهات والتحديات هو بصيرته النيرة وإرادته المندفعة بقوة العقل والهمة العالية، إذ قد يكون المرء جاهلا، ويحتاج إلى ما ينمي ويفتح عقله نحو آفاق الوعي والنضج، وما حياة التيه والضياع وتفويت الأوقات الثمينة في المبخس من الأمور والمعدم الفائدة من الأحاديث والترداد المستمر بين سراب المتاع الزائل للدنيا، وتعلق البال والنفس به إلا بسبب قصور في الوعي ونظرة خاطئة للدور الوظيفي المناط به والمتناسب مع وجوده التكريمي والرافع لشأنه، فالإنسان قد كرمه الباري عز وجل بتلك النعم التي يستطيع من خلالها أن يصنع لنفسه وجودا متألقا من خلال منجزاته وعطائه وأثره الإيجابي في محيطه، وما يحدثه من تغيير في النفوس من خلال كلامه الحكيم الواصل إلى الأفئدة بسلاسة، أو من خلال سلوكه العملي المتجسد فيه مكارم الأخلاق الجذابة للنفوس المتعبة بتغلغل الكراهيات والأنانية والتولع بالدنيا، فيدعوهم بسلوكه العملي نحو الفضيلة وينتزع من قلوبهم بذور الشر والعدوانية، فتنقى وتصفى بعد تخلصها من تلك السموم الأخلاقية.
وقد يكون السقوط لا لقصور في الإدراك الفكري، بل هو بسبب ضعف الإرادة والتصميم الواهن والعزم المنخور عند تلقيه ومضة فكرية ينبغي التحرك وفق مقتضياتها ومعطياتها، فالعقل الرشيد يحدد له ذلك المسار الواضح وضوح الشمس ولكن - يا للغرابة - عندما يتخذ مسارا مخالفا ومعاكسا لما تستنير به العقول، والسبب في ذلك هو إبعاد العقل عن التحكم في دفة أموره وتقدم الأهواء والشهوات المتفلتة لتقوده نحو السقوط في هاوية الخطايا والنقائص، وتقوية الإرادة لا يأتي من فراغ بل هو نتاج عمل تدريبي متواصل يحدد من خلاله نقاط الخلل والضعف عنده، ومن ثم يبدأ مشوار التصحيح والمعالجة، وينطلق نحو أهدافه متخطيا المرحلة والمحطة الواحدة تلو الأخرى، فكم من إنسان يعزم على فعل العمل الصالح وصنع المعروف، ويحدد له وقتا ويرسم له معالم تخطيطية، ولكن ما إن يحين وقت العمل إلا وبدأت حركة النفس الوهمية «الأماني» وإبداء الأعذار، حتى يعلل لنفسه سبب تركه لطرف الخيط والإحجام عن الفعل، وكم من إنسان قد أبصر عيوبه بعد الوقوف أمام مرآة النفس، وعزم على تجنبها والبعد عن الطرق والعوامل المؤدية لها، ولكنه متى ما عرضت له يعود مجددا لمزاولتها والأخذ بها، متناسيا ذلك الوعد الذي قطعه على نفسه بتحييدها عن طريقه وتصرفاته لما تعود عليه بالوبال والخسران والانحدار الأخلاقي والوقوع عرضة للأمراض الأخلاقية الفتاكة.
ومما يعين على دراسة النفس ومعرفتها بنحو صحيح وتحديد قيمتها، هو مدى يقظته الروحية وضميره الحذر أمام المغريات لارتكاب الشرور والخطايا أو بث الشيطان في نفسه بالتكاسل وضعف الإرادة تجاه القيام بالواجبات وتحمل المسئوليات الدينية والثقافية والاجتماعية، وخير معين على معرفة خبايا النفس وما تحويه من تصورات ومشاعر هي مدرسة الدعاء، والتي تعمق علاقته بالله تعالى فيستكشف ضعفه ومحدودية قدراته من خلال التعرف على عظمة الله تعالى، وهكذا نجد الإمام السجاد يوجد هذا البرنامج الروحي، وهذه المساحة من العلاقة بالله تعالى المنمية لملكات النفس والمعمقة للمشاعر في ميدان المعرفة ومراقبة النفس.