قدرة الإدارة عند الشيخ الصفار
تسعى جميع الأنظمة الوظيفية في الشركات الربحية والمؤسسات الحكومية إلى تحقيق إنتاجية سريعة ومتقنة من خلال الكوادر التي تعمل بها. ويحصل ذلك إذا كانت الإدارة التي تدير تلك المنظومة ذات كفاءة عالية من الخبرة التي تستطيع رفع مستوى الجودة لدى الموظفين. وأبرز صفة يتحلَّى بها المدير الناجح هي صفة إدارة الوقت التي إذا أتقنت بشكلها السليم انتظمت أمور تلك المنظومة. وعلى العكس من ذلك إذا اختلَّت اهتزَّت مسيرتها العملية. إن من يتحلَّى بإدارة الوقت حتى على المستوى الشخصي يتميَّز وينتظم تفكيره وأسلوب حياته بشكل عام، فلا تجد شخصًا مميَّزًا إلَّا ولديه هذه القدرة على إدارة الوقت. ولأن إدارة الوقت مهمَّة في كل المجالات، أصبحت تُعقد الورش والدورات من أجل الارتقاء بتلك المهارة لدى الأفراد.
وسماحة الشيخ حسن الصفار ممَّن أتقن تلك المهارة، فعرف كيف يدير حياته. وتكوّنت لديه هذه القدرة على إدارة الوقت التي رسمت شخصيته وجعلتها متميّزة، حيث إنه تربَّى على أن يكون مثابرًا في المنهج الذي قد اقتنع به منذ كان صغيرًا، كما نقل هو ذلك في مذكراته التي نشرت في مجلة الموسم حيث قال: «أشعر بالفعل بأنني لم أمارس اللعب بالمقدار الكافي في مرحلة الطفولة كبقية أقراني، وهذا التقولب في هذه المرحلة المبكّرة حرمني من الاسترسال في مرحلة الطفولة، لكني أشعر بامتلاك حصيلة من التجارب في مجال العمل الديني والاجتماعي لبدايتي المبكِّرة» [1] .
من يكون قريبًا من سماحته يلمس كيف أنه يحترم الوقت الذي جعل منه شكلًا منظمًا فلا يتداخل مع بعضه البعض. فقد خصص وقتًا لعائلته لا يتداخل مع وقت عمله الاجتماعي أو العلاقاتي إلَّا نادرًا. كذلك، فإن له وقت دوام قد قسَّمه بين القراءة والكتابة وممارسة الرياضة اليومية، واستقبال الزائرين. كما أنه خصَّص أوقاتًا للعلاقات الخاصة. والغريب أن العاملين في مكتبه، بعض الأحيان، ينسون بأن لديه موعدًا، فيُذكِّرهم هو به.
ارتبطت بشخصية سماحة الشيخ الصفار منذ كنت صغيرًا مستمعًا لمحاضراته وقارئًا لكتبه، وقد كنت لا أدرك سبب تميُّزه، ولكن عندما ارتبطت به عن قرب لمست أن سر تميُّزه هو إدارته للوقت، وكثيرًا ما أتساءل عن قدرته على التحضير وإصدار الكتب المختلفة مع كثرة انشغالاته وعلاقاته الكثيرة وسفراته المتكرِّرة، ولكن كنت مباشرة أجيب على تساؤلي بأن السر في ذلك هو في إدارته للوقت وترتيب الأولويات.
والعجيب في سماحته أن عقله ينظم الأوقات بشكل سريع، ويأتي ذلك بثمار عجيبة. لا زلت أتذكَّر الوقت الذي أسَّس لقاءً أسبوعيًّا لطلبة العلوم الدينية في مجلس سماحته. وقد استمر ذلك اللقاء في مجلس الشيخ قرابة الثمانية أعوام إلى أن انتقل إلى ضيافة مجلس أحد المشايخ بناءً على طلبه. ومهما يكن من شيء، فقد انتقل هذا اللقاء إلى مجلس في إحدى قرى القطيف ذات ليلة، وكان من المقترح أن يكون سماحة الشيخ حسن الصفار هو المتحدِّث، في وقت كان هو فيه من ضمن المدعوين إلى مؤتمر الحوار الوطني الذي تم تأسيسه والذي كان يعقد في الرياض. كنت أتساءل حينها، كيف سيُوفِّق الشيخ بين اللقاءين المتقاربين جدًّا في الزمان والمبتعدين في المكان «الرياض والقطيف». وكانت المفاجأة أنه حضر المؤتمر ورجع في الليل رأسًا من المطار إلى مقر إقامة الجلسة الأسبوعية في الوقت المحدَّد، وتحدَّث ساعة كاملة.
من يتعوَّد على إدارة الوقت يحرص دائمًا على إنهاء أية مشكلة تُعطِّل من الزمن الذي يعيش فيه؛ لأنه حريص على الدقيقة التي من الممكن أن يعمل فيها الأمور، لذلك فإن سماحة الشيخ الصفار دائمًا وأبدًا يدعو لعدم إضاعة الوقت في الخلافات، ولا بدّ من وضعها في حجمها الطبيعي وعدم تضخيمها والإسراع في حلّها، وكما يُنظِّر لهذا الكلام فإنه يُطبِّقه على نفسه. فمن يعرفه جيدًا، يجد تلك السِّمة واضحة في شخصيته. فلا تجده يومًا دخل في صراع طويل حتى مع من يخالفه الرأي والتوجُّه، بل على العكس، فهو يحاول جاهدًا في حل المشكلة والتصدِّي لها في بداياتها وعدم الانزلاق في أتون مستنقعاتها. فهو يتحلَّى بقدرة كبيرة في إدارة الخلافات. فقد يكون السكوت عن بعض المشكلات هو موتها أو المبادرة إلى إنهائها في بدايتها. كما أنه يسعى بأَلَّا تحصل مشكلة أو خلاف نتيجة أمر يستطيع تقريب وجهات النظر فيه كما رأينا في بداية عودته من الخارج. ففي كل عام، يحصل اختلاف في منطقتنا على ثبوت الهلال بين المشايخ ومن ثَمَّ يتحوَّل إلى اختلاف بين الناس، ومن المعروف أن الناس تثق في مشايخها، وقد كان يأتي لسماحته شهود الرؤية، لكنه قد أخذ على عاتقه بأَلَّا يتصدَّى لهذا الأمر، لكنه يأخذ الشهود ويذهب بهم إلى المشايخ المعروفين على مستوى المناطق المختلفة ليشهدوا عندهم حتى يصبح هناك اتّفاق على الهلال، فيُعيِّد الناس في وقت واحد.
وبهذا فقد استطاع الانفتاح على المذاهب المختلفة لأنه يرى أن العلاقة مع الآخر توضّح الصورة النمطية المرسومة في داخل كل فرد وتقلّل الاحتراب. ولم يكن انفتاحه على الآخر في الذهاب إليه فقط، وإنما دعوته واللقاء بالناس لكي يتفهَّم التفكير السائد في خلدهم.
وهناك أمثلة كثيرة على نبذه للخلافات التي تُضيع الوقت وتشغل الناس عن مصالحهم قد عالجها وتحدَّث عنها.
من يضع نفسه رمزًا لمجتمع لا بدّ له من أن يتحلَّى بصفة الإدارة المجتمعية؛ لأن المجتمع هو عبارة عن شركة موسَّعة لها دوائرها المختلفة. وقد تكون تلك الدوائر لا يتوافق بعضها مع بعض، أو قد تتصادم في وجهات النظر والتوجّهات، وقد تتقاطع مع بعضها في توجّهات وتتَّفق في عمل. في هذا الصدد يذكر الشيخ الصفار أنه استفاد من الشيخ فرج العمران الذي استوعب الجميع مع اختلافاتهم. وقد ذكر ذلك في سيرته الذاتية التي نشرت في مجلة الموسم حيث قال: إن من صفات الشيخ فرج «استيعاب اختلاف الانتماءات والتوجُّهات في الوسط الديني، حيث لم يحصر تواصله وعلاقته بجهة دون أخرى، ولم يُقحم نفسه في أيِّ صراع أو خلاف، وشواهد هذه الحالة واضحة جلية في سيرته وكتاباته، فهو يتواصل مع مختلف المراجع والعلماء كما في زيارته للنجف وكربلاء والكاظمية وقم ومشهد، ولا أعتقد أنه لا يعرف عن وجود خلافات وتباينات في تلك الأوساط، بل أعتقد أنه لا يرى نفسه معنيًّا بها».
ما قاله عن الشيخ فرج العمران رحمه الله طبَّقه هو في حياته المجتمعية. فعلاقاته موسَّعة مع الجميع، ولا يقبل بأن يتدخَّل أحد فيُحجِّمها بما هو يراه، فقد تكون له علاقات مع جهتين مختلفتين يحاول أن يتقاطع مع الجهتين ويتفاعل معهما، ويبتعد عن النقاط التي تسبِّب حساسية بين الطرفين؛ لذلك تجده ممتلئًا بالعلاقات على شتى التوجُّهات. وقد تكون هناك قطيعة من الجهة المقابلة له يتعامل معها بكل احترام؛ لأنه يعي بأن الخلافات لا تطول، وقد يأتي وقت تتَّفق فيه الأطراف، وقد حصل مثل هذا كثيرًا.
في كل عام، له جولات في رمضان بعضها مع شخصيات، لكن الأبرز منها هو زياراته للجمعيات الخيرية والأندية الرياضية، يحاول بقدر ما يستطيع أن يستمع إليهم ويناقش معهم المعوّقات والهموم المشتركة.
الإدارة فن من الفنون، وليست علمًا من العلوم، وإنما العلم يُضفي على هذا الفن بعض اللمسات ويضع النقاط على حروفها. الشيخ حسن الصفار قد استوعب هذا الفن من خلال التجارب الكثيرة التي مرَّت به وطبَّقه على نفسه في تعامله مع مجتمعه.