آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

طبع أم تطبّع.. حَدَثٌ وَحَدِيثٌ ”50“

عبد الله أمان

كَثيرَةٌ هِي المَواقفُ ”البُطوليةُ“ الحاسِمةُ في لَحظاتِ حَياتِنا اليوميةِ المُعاصِرةِ، التي تَستثِير وتَقدَح بحماسةٍ، زِناد أنماط سُلوكياتِنا، بتلقائيةٍ نَشطةٍ، بفِيوض تغذياتِنا الراجعةِ الآنيةِ؛ وتَحفّزٍ بسيلٍ جَارفٍ مِن حَرَاكٍ رَشيقٍ وسَريعٍ عدوِ ”جَاهزِية“ ذخِيرةِِ ناشطِ استجاباتِنا ”الماراثونية“ المسايرة لها، في طُول مَسارِ نَسقِ انطلاقةِ السهمِِ الخفيفِ المارقِ، مِن كَبدِ قوسِها، دُون التريّثِ المُتأنّي للحظةٍ عَابرةٍ؛ أو الالتفاتِ المُتروّي لزفرةٍ صَادرةٍ؛ لمُداولةِ الأمرِ المَحسومِ قبل إقرارِه، والمُؤدّى فِعله مُسبقًا؛ أو استضافتة لهُنيهةٍ، أمام ”مجلس“ تلافِيفِ الدّماغِ، كَمرورَ جِسمِ سَحابةٍ عَابرةٍ، ولو بمُجاملةٍ قَصيرةٍ، أو مُلاطفةٍ مُصطنعةٍ؛ بُغية إستِصدار قرارٍ راشدٍ نافذٍ، بعد أنْ يَتمّ تَناول وتَداول شأن الأمر المَعنِي الماثِل؛ ورُؤيته عِيانًا - عَن كَثبٍ - بأبعادِه الثلاثِيةِ جَليًا، بكَالِح حَقيقةِ مُلابساتهِ المُستتِرةِ، وغابِش أقنعتهِ المُتواريةِ خِلسةً؛ ورَصدِها بعدساتِ مِنظارٍ مُقرّبٍ؛ لنجعلَ أنماط رَيع استجاباتنا الآنيةِ البِكرِ المُنفلتةِ توًا، أكثر نُضجًا، وأبلغ أَثرًا، وأنصع دَليلًا، وأَقوى ذَخيرةً؛ لتُتوّجَ - طَوعُ الاستجابات - برمّتها الظافرة، بأحكامٍ وَاضحةٍ قاطعةٍ، تراهَا بوضوحٍ؛ وترصُدها بصفاءٍ، آذان، وبصائر، وأحداقُ أعين الآخرين، مِن حَولِنا، بسدِيدٍ رأيٍ، وبدِيعِ استجابةٍ…!

ولعلّ حَبكةَ تَوطئةِ طَيفِ أُسطورةِ هذا النسق المُتدفّق، مِن نِتاج صّميمِ ”الطبع“ الإنشائي الذاتي، الذي دَأبَ مِدادُ قلمِي، على نَثرِه، بأَريحيةٍ؛ ونَشرِه بشَفافيةٍ، منذُ أنْ قَوِي ناتئُ شفرةِ مَلكةِ التعبير؛ واشتدّ على سُوقه؛ واستهوته مَلامسُ أنامِلي الجريئة، على ترفٍ وشرفٍ باستضافة نصلِ القلمِ المُتجدّد، منذ سَالفِ عُقودٍ مَضت؛ حتّى استطَالَ واستقامَ قائمُ شَطئه، ولَدُن مَجرى مِدادِه الحُر… فلا مَيل نزعَة ”تطبّعٍ“ مُتسللةٍ مُتسلطةٍ مُخترِقةٍ، ولَا اعوِجاج أهوَجِ أملَج، يدنِو مِن شُموخِ أرنبةِ أنفِه؛ أو يكادُ يتجاسَرُ صَداها - باستِصعادٍ واستِعلاءٍ - وتتجرّأ رِيحُها على اعتراض عَنان استِقواء قصبةِ مِدادِه المِطواعِ المُتواضِع!

وعَودًا حَميدًا إلى واقِع سِمتي ”الطبعِ والتطبّعِ“ سَأوردُ بتوثِيقٍ شَخصيٍّ، مَشهدين مِن بعضٍ المشاهدِ الحيةِ، التي مَا فتِئ صِيتَهُما المُدوّي السحِيق يَصدعُ ويَترعُ استحسانًا في ثنايا ذاكرتِي - صَوتًا وصُورةً - منذ سَالِف تركةِ عُقودٍ مَضت… وأذكرُ مِنها بتجلٍ، في إحدى أمسيات الصيف، في عام 1394 من الهجرة، كنت مُسافرًا للعمل مِن بطحاءِ مدينة الرياض - العاصمة، إلى مدرسة ابتدائبة بإحدى الهِجر بصحراءِ الصمّان؛ وقد استقليتُ في جَوفِ المَقصورةِ الخلفيةِ لسيارةِ ”داتسن - بيكب“ مُصطحبًا بعض العَفشِ الشخصي، وبمعِيةِ بعضٍ من الركّاب، مِن سُكّان الهِجرِ المُتناثرةٍ في أطرافِ الصحراء. هذا، وبعدَ أنْ تحركَت السيارةُ المُقلّةُ للركاب، ولِضيقَ المكان، عَمَدَ أحد الركاب بمدّ رِجله فوق عَفشي، فقمتُ بإزاحتها ”بنرفزةٍ“ شَديدةٍ، مَصحوبةٍ بعبارةٍ أحسَست بتأنيبِها لَاحقًا؛ ولم يصدر ردٌ عنيفٌ مُماثلٌ مِن الراكب المُقابل، يُوازي هبّةَ فورةِ امتعاضِي…! وبعد أنْ استمرّ السائق في المَسِير لبضعِ ساعاتٍ أحسّ بالاسترخاء والتعب الشديدين، وقد أرخَى الليلُ سُدوله، فتوقّف، وأشار إلى الركاب بالترجّل مِن المقصورة، والنومِ في العَرَاء، كالمُعتاد… وقبلَ بُزوغِ خُيوطِ الفجرِ، بدأت برودةُ الليلِ تنتشر في الأجواءِ المحيطةِ بنا، وقد أحسستُ بلسعِها، وصَحوتُ لهنيهةٍ، وإذا بالراكب الذي قابلته بالنرفزة - قبل سَاعةٍ - يغطّي، ويلحّف سائر جِسمي بالمُلاءةِ... وبعد أن صَلّينا صلاةَ الصبحِ جَماعةً، استأنف السائق الرحلة، في طريق رَملي وعِر مُتعرّج؛ لنصلَ في ظهيرةِ اليوم التالي إلى هِجرة ”اللّهابة“ المقصودةِ… وبعد شروقِ الشمسِ بقليلٍ، التفتّ إلى صَاحبي، الذي غطّاني ”بمعروفِه“ آنفًا، بابتسامةٍ واسعةٍ؛ لأمدّ يدي له لمصافحته بحرارةٍ؛ وأعتذر إليه عَن سَابقِ امتعاضِي، وأشكرِه مُجدّدًا، على حُسنِ صَنيعِه، وطِيبِ خُلُقه…!

وأمَا المشهدُ الثاني، فيأخذُ زَمانًا مَوقُوتًا، في ربيعِ عام 1978م، من القرن الماضي؛ ومَكانًا مَشهودًا، في حَرمِ جَامعةِ ”نورث تكساس“ الأمريكية العريقة، حيت كُنت طالبًا مُبتعثًا آنذاك، لصالحِ وزارةِ المعارِف الجليلةِ؛ وبطلُ ذلك المَوقفِ المُشرّفِ: رئيسُ الجامعةِ نفسُه؛ وعِند إزاحةِ النقابِ عَن المشهدِ المُتكرّرِ، كانت هُناك رَوضةَ أطفالٍ مُلحقةٍ بطرفِ مَباني الجامعةِ، تطلّ على مُسطّحِ أخضرٍ وَاسعٍ، ثمّ يَليهِ شارع عام متّسع… ومَا لَاحظته أصَالةً، في بدايةِ دَوامِ عملِ الرئيس الصباحِي، بعد أنْ أوقَف سَيارتَة ”الكاديلاك“ الفخمة الفاخرة، على حافةِ الشارع؛ ليترجّل مِنها، مُرتديًا كاملَ لِباسِه الرسمِي الأنيق؛ لِيمشِي بخُطواتٍ مُتّئدةٍ واثقة، فوق المسطح الأخضر؛ ويَنحنِي جَالسًا لبُرهةٍ؛ ليُشارك أطفال الروضة المُنهمِكِين في مُمارسةِ أدوارِ اللّعبِ الجماعية؛ ليداعبهم، ويربّت على أكتافهم؛ بتواضعٍ جَمٍّ، وأريحيةٍ صَادقةٍ، وتَصابٍ مَاثلٍ… لم أعهد مشاهدة تلك اللقطات الايجابية الذّكيةِ المُبهجةِ، مِن قبل… وبعد ذلك يَنتصِبُ وَاقفًا؛ ليهزّ كَتِفيه وسَاعِديه؛ ويُرتّبُ مَا انكمش مٍن أطراف تجاعِيدِ هِندامِه… ثم يخطو للأمامِ - منتصب القامة، بزَهوٍ وتَبختُرٍ - ويصعدَ إلى مكتبه الفخم… كلّ تفاصيل ذلك المشهدِ الجاذِبِ البانورامي، بقضّهِ وقضِيضهِ، يَستغرقُ مِن الوقت مُدّة احتساءِ كُوبٍ مِن القهوةِ الدافئةِ. ولُبابُ الخلاصةِ المرفوعةِ هُنا… مَا أحلَى وأسمَى وأجلَّ أنْ تتمازَج الوجَاهة السمحةِ، في قِمّةِ زهوِها المتألّقِ المُتأنّقِ؛ وتتمَاهى خِفةُ رَيعُها الحالِم، مع لَِهوِ الطفولةِ البريئةِ، في مُغلّفِ كَبسولتِها الأخاذةِ الفاتنةِ؛ ليتّحِدَ ويتجانسَ رِفدُ نِتاجِ، وتَنويلِ عَطاءِ السّمتَين المُحبّبتين؛ لتَرسِما وتُخلّدا - بفخرٍ واعتزازٍ - جَانِبًا نَاصِعًا مُشرّفًا، مٍن أسمَى وأنمَى تجلّياتِ القِيمِ الإنسانيةِ السامِيةِ المُثلى، مَظهرًا وسُؤدُدًا…!

هَذا، فرَفيقُ دَربي في المَشهدِ الأولِ، لَا أَرَاهُ يتصنّعُ مَا أسدَاه بلُطفِ، وسَجيةِ مَشاعرَ أصيلةٍ، مِن مَعروفٍ نَمطِي تِلقائي، لَا يَحتسِبُ، ولا يَرجو مِن وَرائه عِوضًا مُقابلًا؛ ولَم يَتطبّعه، أو يَتصنّعه، جُملةً وتَفصِيلًا، بل قام به، وأدّاه كاملًا، مِن طِيبِ خاطِره، ونقاءِ طُويتهِ، وأَصالةِ سَرِيرتِه، وسَماحةِ سَليقتهِ، وكَمالِ طَبعِه… فذلك طَبعٌ نبيلٌ مَشكورٌ، جُبَل على الالتزام بهِ مَسلكًا مَشهودًا؛ والتزمَ بهِ مَنهجًا مَمدوحًا؛ وصانَهُ تَصرّفًا مَحمودًا؛ يَستحسنُه، ويُشيدُ بمِثالياتهِ المُثنَى عليها، كلّ مَن لَمِسه أصالةً، وسَمِع ذكره بأريحيةِ صَنيعهِ نقلُا وإنباءً.. وأما مِظلةُ المشهد الثاني، فبطلُه صاحب مَنهجٍٍ تربوي، يَرى بأمّ عَينيه؛ ويُدرك بثاقِب عِلمه؛ ويتعامل بحُسنِ أدبِه؛ ويخالِط الناسَ بسَماحةِ حِِسّه التربوي الخلّاق؛ ويستشرفُ وَاثقًا، بأنّ مَرحلةَ الطفولةِ العُمريةِ، هِي امتدادُ لمراحلَ عُمريةٍ قَادِمةٍ، نَاضجةٍ، مُنتجةٍ؛ وصُولًا إلى مَرحلةِ الرجولةِ الواعيةِ المَنظُورةِ، والعطاءٍ الاجتماعي الظاهرٍ المُتميّزٍ… ولن تُجنَى يانِعُ ثمارِ مَرحلةِ الطفولةِ السعيدة لَاحقًا، مَا لم تَحضَ، وتَرضَ، وتُعطَ بجزيلِ حِصّتها، بسخاءٍ وافرٍ فيّاضٍ، مِن إعدادِ مُتطلباتِ العُدّةِ التربوية التأهيلية المُواكبةِ، وإرصادِ أُهبةِ الاستعدادِ المُوجّهِ؛ لمُواجهةِ ومُقارعةِ حَاجاتِ الحياةٍ العصريةٍ القادمةٍ؛ ومُصارعةِ ومُغالبةِ أعتَى صُروفِها المُتجدّدةِ؛ ومُجابهةِ ومُقاومةِ أنكَى شَدائدِها المُتنمّرةِ، مَع مَطلعِ كلّ شَمسٍ… وأَرَى مُتأمّلُا مُتوسّمًا جُلّ الخيرِ والبركةِ، في شَهامةِ، ووَسامةِ، وقَسامةِ البطلِ الأنسانِ، مُتجسّدًةً في أحلَى وأبهَى صُورةٍ جَماليةٍ إِنسانيةٍ مُثلَى… ولَا أكادُ أُخفي قولَ نَبيِّنا الكَريم، عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصَحبه الغُر الميامِين، أزكَى التحية، وأتمّ التسليم؛ وأنْ أعطّرَ بذكرِ حَديثِه، وفضلِ كَرمِه مَسامعِ القارئ الكريم: «إٍنَّ مِنْ أَحَبِّكمْ إِليَّ وأَقْرَبِكمْ مِنِّي مَجْلٍسًا يَوْمَ القِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا».

* د. روحي البعلبكي- موسوعة روائع الحكمة والأقوال الخالدة- دار العلم للملايين ط 8 ص 67