في رحاب دعاء الإمام الحسين (ع) في صبيحة عاشوراء «15»
لذة المناجاة:
ورد عن الإمام الحسين : اللهم أنت ثقتي في كل كرب».
يتجه الإنسان المغرور بزينة الدنيا والمفتون بمتاعها الزائل إلى تلك اللذة المادية المواجهة للغرائز عنده كحب التملك وحب المال وحب الجاه، ومع انغماسه في هذه اللذات ولهثه خلفها بغير توقف وجعلها الهدف الأوحد الساعي خلفه، تتكون عنده صفة الطغيان وتضخم الأنا والتغول فلا يقف في وجهه مسألة قيم أو خطوط شرعية حمراء، إذ يهرول دائما خلف مصالحه الشخصية، ويتحول إلى مجرد أرقام في ثروته وممتلكاته، ولا يشبع طمعه وجشعه شيء، وتغيب عن حساباته مسألة الرحيل من الدنيا وكأنه مخلد لا زوال له منها.
وهذا الخط الشيطاني وهو الافتتان بزخارف الدنيا هو ما يفسر الموقف المضاد والمناوئ للنهضة الحسينية وما تحمله من مبادئ إنسانية وقيم أخلاقية نبيلة كتحرير إرادة الإنسان من أسر وأغلال الأهواء، إذ أن الناس لا يجدون راحتهم ومصدر سعادتهم إلا في الجري خلف سراب نعيم الدنيا والالتصاق به، وهذا بالطبع يستلزم مواجهة كل ما يحارب مصالحهم ومنافعهم الشخصية، كما في حركة الأنبياء ودعوتهم التوحيدية كان قسم من الناس يعادونهم ويرفضون دعوتهم بسبب الجهل المغلف لعقولهم ورفضهم الاستماع للحق للاتباع والتقليد الأعمى لآبائهم، ولكن هناك قسماً ممن عادوهم هو الخطر المتصور في أذهانهم من سيادة تعاليم الدين الحنيف، والتي تسلبهم المكاسب والمغانم الخاصة بهم والزعامات التي وصلوا إليها فلا يمكنهم القبول بنزعها!!
أما في القيم الدينية فالسعادة ومصدر الطمأنينة لا يكون بالركون إلى ما لا تملكه حقيقة، بل ويسلمك في وسط الشدائد، فلا الصحة ولا المال ولا الوجاهة ولا الأهل تدوم فإنها تسقط في وقت مفاجئ ويبقى وحيدا يكابد الهموم والآلام، بل يكون بالنظرة الواقعية للدنيا، وأنها ممر ومرحلة تنتهي لتبدأ الحياة الأخروية الأبدية، وأما متاع الدنيا الزائل فالمؤمن يسعى لتحصيل لقمة العيش الحلال منها وتوفير مستلزمات الحياة الكريمة، وأما هدفه الأسمى فهو ما يحقق تكامله وكرامته وهو العبودية والطاعة المطلقة لله تعالى، وهذا ما أكد عليه الإمام من أنه لا معتمد ولا مستند له إلا الله تعالى والثقة بتدبيره، وهذا مصدر الطمأنينة والدافع القوي في مواجهة التحديات والمهام الصعبة وإدارتها بكل لياقة وحنكة، فقيمة الإنسان وشأنه يحدده مدى ارتباطه بالله تعالى والأمل بوعده في الدنيا بالنصرة ما كان مستقيما وثابتا، وفي الدار الآخرة فيجزيه خير الجزاء والنعيم الأوفى.
التحرر من القيود والأغلال الشيطانية هو ما يحدد قيمة الإنسان ومدى حريته واختياره في المواقف والأحداث، وتبعده عن الأفكار والخطوات الشيطانية التي تحركها غرائزه ودوافعه الشريرة نحو العدوان والانتقام، فالنفس البشرية تتنازعها قوى الإيمان والضمير اليقظ من جهة ونوازع النفس الأمارة بالسوء وهتافات الشيطان الرجيم من جهة أخرى، ووقفة الدعاء تأكيد على الشحن والتحشيد الإيماني وتجنب نوازع الظلم والطغيان، فمتى ما انسجمت النفس مع قيم ومضامين الدعاء استشعرت عظمة السير في خط الأوامر والتوجيهات الإلهية، فذاك التأييد والتوفيق للخطوات التي يقوم بها يعرف تماما بأنها لصيقة بمدى اتصاله بالله تعالى وتمكن الخشية منه في قلبه وجوارحه، فاللذة في المناجاة تعني رقة في مشاعره بعد أن تغلغل حب الله تعالى في نفسه، وشعورا بالسعادة والراحة النفسية كيف وهو في حمى وأمن القوة المهيمنة على الكون وما فيه.
إننا في رحم المحن والشدائد نستمد قوة النفس في مواجهة التحديات والصعاب من الدعاء والمناجاة، كما نجد ذلك في نهج الإمام الحسين بدعائه قبل الدخول في تلك المواجهة والملحمة الكبرى، يتوجه إلى مصدر الأمان والأنس والغنى لفقره وضعفه من الله تعالى، فهذه الدنيا بكل ما فيها من تفاصيل لا تستحق الاهتمام والعناية سوى التذلل لله تعالى واليأس مما عداه، فلا يحقق صفاء الذهن وهدوء النفس والتخلص من القلق والهموم كذكر الله تعالى ولذة مناجاته، فمن أنس بذكر الله تعالى وجد المخرج من كربه وآلامه.
?