تأملات حميمة في لفظة ”حضن“ وسط معانيها الجميلة
”ولَو تصفّحت أوراقي لِتقرأهَا… رأيتَ تأمّلاتي جُِلّ أوراقِي“.
1. يُعَرّفُ ”الحِضْنُ“ بأنّه: «مَا دُونَ الإِبطِ إلى الأضلاعِ» * ويَحتفِي جَذرُ المُفردةِ اللغويةِ ”حَضَنَ“ بعددٍ مُتجانسٍ مِن شُعلةِ قَبسٍٍ مُنمّقٍ، ومُتّفقٍ عليه، في مُتون المَعاجِمِ العربيةِ، مِن حُسنِ، وفخامةِ، وجَزالةِ المعانِي الوجدانيةِ الجميلةِ، حِسًا، ودَلالةً، ومُزاوجةً، ومَعنىً، وصِياغةً؛ وبالرّغمِ مِن سَلاسةِ، ونُعومةِ؛ وتَمكّن فَصاحةِ وطَلاقةِ اللّسان العربي المُميّز بلَفظها، بيُسرٍ وسُهولةٍ، وَسَط تَمهِيدٍ وتَوطِئةٍ لدِيباجةٍ ذِهنيةٍ؛ لاستِدعاءِ صُورةٍ شُعورٍيةٍ تَصويريةٍ ذَاتيةٍ، مِن سُكْنةِ الارتياحِ، ووَقفة الانشراحِ، اللّتان مَا فتِئتا تُتحِفانِ أذنُ السامعِ انسِجامًا واتّسَاقًا، بارتِسامِ ضُمَيمَةٍ فَوّاحةٍ مِن مَشاعرَ ”ناعمةٍ“ تُلامِسُ رِقّةَ التلقّي الواعِي، وتُحرّك خِفّةَ الوِجدان المُرهَف، في بناءِ قوامِ صِيغةٍ مُنقاةٍ مِن نَسقٍ لَفظيٍّ مُقفّاةٍ مَخصوصٍّ، تُجارِي وتُناغِي به الأمّ الرؤومُ طفلَها الرضيع المُدلّل؛ ليَغُطّ في سَاعةِ سُباتِ نومهِ المُعتاد…!
2. فاحتِضانُ الأُمّ لطفلِها الرضيع، وضمّه إلى صَدرِها، الحمِيم الحنُون برفقٍ واعتناءٍ؛ لإرضاعه؛ أو إخمادِ ثَورةِ بُكائه المُتكرّرةِ؛ أو إِسكاتِ فَورةِ التشكّي الصاخِبةِ؛ وبالتالي، شُعور نفسيةِ الطفلِ المُتكدّرِ، بجوّ مَليءٍ بالراحةِ والأَمانِ؛ ومَفروشٍ بالهدوءِ والطُمأنينةِ، بعد إدخالِ مَشاعر الحنانِ؛ وإضفاءِ دِفءِ العاطفةِ، مَقرونةً بعباراتِ مُلاطِفةٍ مُداعِبةٍ، تَصوغُها طَربًا، صِدقُ مَشاعرِ الأمّ السعيدةِ ابتهاجًا؛ وتتلقّاها مُستقبلاتُ مَسامِع الطفل الودِيع ارتياحًا، برَشيقِ نغماتٍ، وعَذبِ هَمساتٍ رَخيمةٍ سَاخنةٍ، مِن غَير أن يُدركَ الطفلُ فَحوى مَعانِيها الناعمةِ الجميلةِ؛ وفي المُقابل، تُهدِيها الأمّ - مِن جَانبها - طَواعِيّةً، مِن صَميمِ حَشاشَةِ فؤادِها، بأنفاسٍ مَليئةٍ بالعطفِ والتّحنانِ... وهُنالك تُحْدِث - مَن الجنة تحت أقدامِها - هَالةً لمِيلادِ مَوجةٍ مِن التناغُمِ والتآلُفِ؛ وتُربَط حِينئذٍ، وَصلةُ هُنيهةٍ مِن رِبقةِ التجاذُب المتبادَل، بين دقّات قلبين…!
3. وتَتعدّى مُفردةُ ”حضن“ مَعناها الحِسّي المَألوف؛ لتأخذَ - بلَباقةٍ ورَشاقةٍ - راقِيتَين، مَعانٍ مّناقبيةٍ، ودّلالاتٍ مَعنويةٍ، تَطرَبُ لها الآذان؛ ويَهتزّ لها الوِجدان؛ وتُحرّك لُباب دَواخِل الإِنسان… فهَا هِي واحدةٌ مِن أسمَى التجلّيات الفِكرية، تتمثّل في احتضانِ واعتناقِ، وتبنّي مَبدإٍ سامٍ، أو مِلّةٍ راقيةٍ، أو فِكرٍ جديدٍ، أو مُعتقدٍ ربّانيٍّ مجيدٍ… وعَادةً مَا يقبلهُ ويتعامَل مَعهُ مُعتنقُوه الجُدُد، بشيء مِن القناعةِ الفكرية، والتلبيةِ الوجدانيةِ، وكأنّهم يُقبّلُوا ويُقدّسُوا مَاهِيةَ ذلك الفكر الأميَز المُستحسَن، قَلبًا وقَالبًا… والأمثلةُ المُتوارِدةُ، في ناصيةِ الذهنِ، على ذلك، كَثيرةٌ وفَيرةٌ مِنها، على سبيل المثال: احتضان شيخِ البطحاءِ المُطاعِ، والسّميدَعِ الشّجاعِ في قومِه، أبي طالب بن عبد المطلب، عَمّ نبيّنا الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم، لاحتضانِ نُبوّةِ سيّد الخلقِ، ورِسالةِ الإسلامِ، ودَعوةِ الإيمان، وكفالةِ ورِعايةِ النّبي الأكرم، والدّفاعِ الحامي، والذوذِ الواعِي عَن حِياضِ ارومة تلك السلسلةِ السامقةِ مِن مَددِ الأولويات الإيمانية المُقدّسة جميعها، جُملةً وتَفصِيلًا، بكلّ مَا أْوتي مِن قُوّةٍ ووَجاهَةٍ، في حَواضِر وميادينَ مْجتمعه…!
4. ولَا أَستثني، باغفالٍ واهمالٍ، جُملةَ أَبحاثِ، ونَظرياتِ، وتجاربِ، ومَرئياتِ عُلماءِ النفسِ، المُنصبّةِ على أهميةِ حَاسّةِ اللّمسِ - حِسيًا، ومَعنويًا، في تأسِيسِ وتفعِيلِ مُنحنَى التوازُن النفسي المُعتدِل؛ وبناءَ نَسقِ مَنظومةِ التنشئةِ الاجتماعيةِ المُثلى؛ وحَفزِ أعطَر مِثالياتِ رُدُودِ الاستجاباتِ السلوكيةِ الانفعاليةِ المُنعكسةِ الطبيعيةِ للطفلِ السّوِي، مُنذ نُعومةِ أظفارِه؛ لإحداثِ مُستوياتٍ مَرغُوبةٍ مُنسجِمةٍ مِن قَواعدَ مُتوافِقةٍ مِن أُطرِ التكيّفِ الإجتماعي، في وَسط بيئةِ مُجتمعِ الطفل الناشئ؛ وحيث إنّ الحِرمَانَ، والغفلةَ الغافِلةَ عَن تلبيةِ وإشباعِ مُخرخاتِ تلك الحاجاتِ النفسيةِ، قد تودّيان إلى عَددٍ مَاثلٍ مِن العُقدِ والاضطراباتِ النفسيةِ، وسُوءِ التكيّفِ الاجتماعي الظاهر، في سُلوكِ الطفلِ المُهملِ، لَاحِقًا…!
5. وهُناك مَعانٍ جَميلةٍ مُتفرّقةٍ مُتباينةٍ لمَفهومِ ”الحَضَانةِ“ مِنها: تربيةُ الطفل، والقيامُ على شؤونِه التربويةِ الشاملةِ؛ وتنشِئتُة: نَفسيًا، واجتماعيًّا، وسُلوكيًّا… وهُناك فترةُ ”الحضانةِ“ التي تَسبِق المرحلةَ الابتدائيةَ؛ حيث يتمّ فيها تهذيبُ وإعدادُ سُلوك الأطفال؛ ودَمجُهم وسَط أندادِهم؛ وتعليمُهم بعض المبادئ التربوية الأولية المُثلى، قبل التحاقِهم بالمدرسةِ الابتدائيةِ؛ وتُسمّى ”بروضةِ الأطفال“ وفي حِضنِ سِياقها المُشابِه، هناك فترةَ ”حَضانةِ“ تفريخ بيض الطائر، والتي تتم برقُودِ الطائر فوق البيض في ”مُحَضَّنَتِه“ «المكان الذي تَحضنُ فيه ”الحمامة“ بيضها؛ لمُدةٍ التفريخِ المُحدّدةِ» * وهُناك حَضانةُ دارِ الأيتام، التي تُقدّم الرعايةِ والعنايةِ النفسيةِ والتربويةِ والاجتماعيةِ؛ ومِثلها دار المُسنِين، التي تقدّم الرعايةَ الصحيةَ والنفسيةَ، لكِبارِ السّن، مِن الجِنسين…! وهناك في كَنفِ الوِجدان، المرأةُ ”الحاضِنةُ“ أو المُرضِعةُ، وهي كالأم البديلةِ، التي تتكفّل، وتقدّم العنايةَ الشاملةَ للطفلِ الرضيعِ.. ولَا أنسَى ”حاضنةَ التفريخِ“ وهِي آلةٌ، يُِوضعُ بداخلِها بيض الطائر، لتقوم بمهامّ مُماثلةٍ لرَقدةِ الطير فوق البيضِ، واحتضانهِ بنشرِ جناحَيه، بدرحةِ حَرارةٍ مُعينةٍ مُواكبةٍ؛ ليتم تفقيسِه، تفريخِه آليًّا…!
6. وتُضافُ المُفردةُ ”حِضْن“ إلى طَيفٍ زاخرٍ مِن الأسماءِ المحسوسةِ ”ومِثلها إلى الأسماءِ“ المعنويةِ ”… كأحضانِ الطبيعةِ، وأحضانِ السّباعِ، وإحضانِ المصانع؛ وكذا الاضافةُ المُماثلةُ، لتشملَ الأسماءِ غَير المَحسوسةِ، بتصرفٍ نَصيٍّ مَرنٍ، يُحسَبُ سَلاسةُ استخدامِه، لصَالحِ دِقّةِ وُضِوحِ المعنى، للغتِنا الجميلةِ، كالانغماسِ والانخراطِ في مَغبّةِ أَمرٍ مَا، أو إتيانِ فِعلٍ، أو عَملٍ بغَفلةٍ سَاحبةٍ؛ دُون الالتفاتِ اليقِظ إلى نتائجِه المُتّربةِ على ذلك الفعلِ الشنيعِ الفظيعِ“ فنقولُ: أحضان الشّرْكِ؛ أو أحضان الجَهلِ، أو أحضان الرذِيلةِ…! ولَا يَفوتنِي أنْ أختمَ ببيتٍ فاخرٍ مِن الشعرِ الجَميلِ، لأميرِ الشعراءِ، أحمد شَوقي، يُشِيدُ به، ويَمتدِحُ واحدةً مِن مَناقِب اللغةِ العربيةِ: «إنّ الذي مَلأَ اللّغاتِ مَحَاسِنًا… جَعَلَ الجَمَالَ وَسِرّه في الضّادِ.