آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

عاشوراء وتداعياتها على القيم الإنسانية

جهاد هاشم الهاشم

أسدلت الستار وانتهى يوم عاشوراء، ولكن واقعة الطفوف التي دارت رحاها في كربلاء العراق ستظل خالدة باقية لا تنتهي باعتبارها معركة استثنائية ليست كباقي المعارك، فالمتتبع لما جرى من أحداث تختص بتلك المنازلة وإن دنونا أكثر وأمعنا النظر بعين ثاقبة سنجد أن هذه الواقعة هي من أكثر المعارك التي تركت لنا حيرة متناهية في التاريخ الإنساني قاطبة وإرثا فكريا ومعرفيا عميقا يستوجب على أصحاب العقول المستضيئة بنور الحق البحث والتنقيب ومن ثم استخلاص العبر التي من خلالها نثري الساحة الكونية بما يدعم حالة الاستيقاظ الأخلاقي من كل ما هو ظلام وانحدار للمبادئ البشرية؛فقد أفرزت هذه الأحداث حقائق وتفاصيل ذات آثار نفسية ووجدانية وعاطفية مازالت نتائجها قائمة حتى يومنا هذا، بالرغم من طول المسافة الزمنية التي انتهت بها تلك الحادثة، والتي وقعت سنة واحد وستين للهجرة حتى وصلنا لعام ألف وأربع مئة وخمسة وأربعين هجرية أي أنه قد مضى على أحداثها ألف وثلاث مائة وثلاثة وثمانين عاما لكنها ما زالت تنبض بذكرياتها الغنية بالدروس والحكم وفي كل عام تتجدد لتضيء للبشرية من نورها وأشعتها البازغة حيث تعتبر هذه الواقعة وما جرى فيها من أحداث مؤسفة ومؤلمة والتي من المفترض أن يكون لها دور أساسي ومهم في تبلور طبيعة العلاقة الإيجابية بين بني البشر كافة بل باتت معركة كربلاء وجزئياتها الدقيقة أيقونة لمفهوم المبادئ السامية والسلم الإنساني الحميد بمعانيه الحقيقية الراقية وأبعاده الثقافية النبيلة التي بدورها أسست لقاعدة أهدافها، فهي بمجملها خدمة للإنسانية جمعاء.

وبالعودة إلى الوقائع والأحداث التي وردت بالقرآن الكريم وعلى وجه التعيين سيرة وقصص أنبياء الله - عليهم أفضل السلام وأتم التسليم - لتبين لنا أن قصة كل نبي تتصف بمجموعة من المثل العليا؛ لهذا نجد فيها ما هو عميق ومؤثر تجاه مشاعر من عايشوا تلك الحقبة التي تتعلق بزمن ذلك النبي المرسل من قبل الله - جلت قدرته - بحيث نلمس عن كثب الاهتمام والالتزام قائما لدى تلك الأمم تجاه رسالات الأنبياء - - ومستمرا إلى يومنا هذا وحتى يرث الله الأرض ومن عليها لما تحمله في طياتها من حسن الصفات وكل ما يحاكي الضمير الآدمي.

واستمرارا لذلك الاتجاه وإن أردنا الإبحار والمضي قدما وبحثنا بعمق نحو مرسى شاطئ الحسين ومعركته الأبدية لرأينا جليا ما تركته تلك النهضة المباركة من آثار وبصمات ألقت بظلالها على الفكر الإنساني بشكل عام حتى أصبحت تلك الحادثة بمثابة أرض خصباء لعدد لا يمكن أن نحصيه ممن سجلوا مواقفهم من جميع أنحاء المعمورة وباختلاف توجهاتهم ودياناتهم وتخصصاتهم المعرفية من كتاب ومؤرخين وعلماء وفلاسفة وباحثين وشعراء وغيرهم من شتى صنوف العلم والمعرفة. وإن أردنا تبيان بعض ما جاء في ذلك المضمار فيجدر بنا أن نذكر بعض الذين سطروا أروع البيان في شخص الإمام الحسين وحركته المباركة كالعالم الأنثروبولوجي الأمريكي الأصل «كارلتون كون» في كتابه «قصة الشرق الأوسط» والعالم الألماني «يوليوس فلهاوزن» في كتابه «نهضة الدولة العربية» والعالم الإيطالي «الدومييلي» في كتابه «العلم عند العرب» والفيلسوف الهندي «سيد علي أمير» في كتابه «مختصر تاريخ العرب» وعالم الآثار الإنجليزي «وليم لوفتس» في كتابه «رحلة إلى كلدة سوسيان» وكذلك الباحث العالمي «جون أشر» في كتابه «رحلة إلى العراق» وأيضا الفيلسوف الهنغاري الشهير «أجناتس غولدتسيهر» والمؤرخ والكاتب الهولندي «ربنهارت دوزي» في كتابه «تاريخ مسلمي أسبانيا» والكاتب الفرنسي «هنري ماسية» وكذلك «محمد إقبال» الشاعر الباكستاني الشهير وكذلك اللبناني الشاعر والأديب الكبير «بولس سلامة» في كتابه «ملحمة عيد الغدير»، فكل ما ذكر من هذه النخبة هم قلة قليلة من جمع كبير لا يمكن لأي كاتب أن يحصيهم على الإطلاق، فهؤلاء جميعهم قالوا في الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام أرقى الكلمات ووصفوه بأفضل الأوصاف وتحدثوا بما يتفق وحسن الآداب وسطروا من المديح شعرا لما فيه من سحر البيان وأظهروا من العطف لمصيبته التي أبكت القلوب قبل العيون وهذا إن دل على شيء إنما يدل أن الحسين وحركته المستديمة ليست حكرا على طائفة دون أخرى ولا زمان دون غيره بل شملت كل من يتوق ويبحث عن الحب وينشد السلام والطمأنينة على هذه المعمورة قاطبة مع اختلاف دياناتهم ومعتقداتهم وطوائفهم وألوانهم على مر العصور والأزمان لما حوته من مضامين رفيعة المستوى وأخلاقيات فاضلة تضمن للإنسان وبمعزل عن جنسه وعرقه كل التقدير والاحترام لشخصه وصيانة كرامته وعزة نفسه مصداقا لقوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا [الإسراء: آية 70] .

لذا عندما تتجدد ذكرى عاشوراء الحسين من كل عام نكون بحاجة ملحة تجاه إعادة النظر وكذلك استحضار ثقافة أهل البيت باعتبارها ثقافة وسيرة عطرة بما أوجدته من تأكيد للمبادئ والقيم البشرية الساطعة، إذ إنها منظومة ثقافية إسلامية شاملة ذات طابع أخلاقي إيجابي يتصف بالوسطية والاعتدال، ويؤثر في واقع مجتمعاتنا على تعاقب الأزمان، وخصوصا تلك الحقبة التي نعايشها في وقتنا الراهن لما يمثله شهر محرم الحرام من فرصة استثنائية نعيد فيه كمسلمين باختلاف طوائفنا التفكير بشكل أعمق لبناء هويتنا الإسلامية بصورة مختلفة نكون فيها أكثر صلاحا واتزانا وانفتاحا ووحدة تجاه بعضنا البعض، وأن ننظر ومن خلال ما يدعو له الفكر الحسيني من وحدة الصف، وأن نقبل بالاختلاف مهما كان حجمه وأفقه، وأن ننظر لبعضنا كما قال الإمام علي بن أبي طالب - - بما يخصنا كبشر: ”الإنسان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق“ فما بالك عزيزي القارئ حينما يكون التعامل بيننا كأمة مسلمة واحدة فهذا من باب أولى - لا شك - أن نقبل بعضنا البعض، وهذا من أهداف الحركة الحسينية المباركة، والتي توصي بإصلاح الفكر ونقاء النفس وتطهير الضمير لكل الأجيال لذا يتوجب علينا استلهام الدروس والعبر من حركة الإمام الحسين من أجل تحقيق كل ما يتفق والرسالة المحمدية القرآنية الحقة والتي تنادي بكل المعاني الفاخرة وروح التسامح والتعايش والترابط ونبذ العنف والبعد عن العدوانية وأن تكون الألفة بيننا هي الأساس ونبذ الطائفية المقيتة التي لا نجني منها إلا كثيرا من الضعف والهوان وتصاعد الأحقاد والبعد عن دعائم الرسالة السماوية لبني البشر التي تحثنا بمحاربة الشيطنة ومقابلة الإساءة بالإحسان، ويتجلى ذلك في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «34» وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا [فصلت: آية 34,35].

وهذا بلا شك تأكيد على اتباع ثقافة الألفة والمحبة والإقلاع عن التعصب والاتصاف بالمرونة حتى وإن اختلفنا، وكما هو معروف أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية فالذي يجمعنا أكبر بكثير من توافه الأمور؛ لأننا متفقون على توحيد الرب - جل في علاه - ونبينا واحد محمد - ﷺ - ودستورنا فقط هو كتاب الله المقدس فهذه من عموميات النهضة الحسينة الشاملة أن نتوحد تحت مظلة راية الإسلام العظيم وكما قال عالمنا الجليل سماحة الشيخ فوزي آل سيف في كتابه «أنا الحسين بن علي» صفحة «215» تحت عنوان: ”الحسين أراد أن يحيي القيم والأخلاق في النفوس“ وأسهب جليا تحت هذا المفهوم الذي يحث على ترك الصراعات والتباغض والتناحر والتمسك بما جاء به القرآن الكريم عن لسان نبي الرحمة محمد - ﷺ - وقد جاء عن الحق - جل جلاله - قوله: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ «103» وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ [آل عمران: آية 103,104]

السلام عليك يا أبا عبد الله، السلام عليك يا بن رسول الله، السلام عليك يا خيرة الله وابن خيرته، السلام عليك يا بن أمير المؤمنين وابن سيد الوصيين، السلام عليك يا بن فاطمة سيدة نساء العالمين، السلام عليك يا ثأر الله وابن ثأره والوتر الموتور، السلام عليك وعلى الأرواح التي حلت بفنائك، عليكم مني جميعا سلام الله أبدا ما بقيت وبقي الليل والنهار يا أبا عبدالله ورحمة الله وبركاته.