النقد الثقافي.. تفارق الرؤية بين الغذامي والموسوي
تبلورت تجاه قضية النقد الثقافي في المشهد النقدي العربي المعاصر محاولتان متفارقتان في ناحية الرؤية ومنقطعتان في ناحية التفاعلية، المحاولة الأولى جاءت من الناقد السعودي الدكتور عبدالله الغذامي تمثلت في كتاب: «النقد الثقافي.. قراءة في الأنساق العربية» الصادر سنة 2000م، والمحاولة الثانية جاءت من الناقد العراقي الدكتور محسن جاسم الموسوي تمثلت في كتاب: «النظرية والنقد الثقافي.. الكتابة العربية في عالم متغير» الصادر سنة 2005م.
وهذا يعني، استنادا إلى هاتين المحاولتين، أن الاهتمام بقضية النقد الثقافي عربيا قد تأخر على مستوى التأليف إلى ما بعد نهاية القرن العشرين. ولعل قبل ذلك كانت هناك بعض الإشارات العابرة. ودل على ذلك بوضوح كبير أن مفهوم النقد الثقافي لم يدرج في كتاب: «دليل الناقد الأدبي» إلا في الطبعة الثالثة الصادرة سنة 2002م، وجاء فيه عند الإشارة إلى النقد الثقافي في العالم العربي، اعتبار أن كتاب الغذامي «النقد الثقافي» يمثل المحاولة الوحيدة المعروفة حتى ذلك الوقت في تبني النقد الثقافي بمفهومه الغربي.
تفارقت الرؤية بين الغذامي والموسوي، في أن الغذامي أقام رؤيته على أساس القطع بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، داعيا إلى التحول النظري والإجرائي من النقد الأدبي إلى النقد الثقافي، معلنا صراحة عن موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي مكانه، معتبرا أن النقد الأدبي بمدارسه القديمة والحديثة، قد بلغ حد النضج أو سن اليأس ولم يعد قادرا على تحقيق متطلبات المتغير المعرفي والثقافي الضخم الذي نشهده عالميا وعربيا، وقد أوقعنا في حالة من العمى الثقافي التام، مستوثقا بمقولة الشيخ أمين الخولي «1895 - 1966م» عن البلاغة العربية بأنها نضجت حتى احترقت، مقدرا أن هذا الرأي فيه صدق وبصيرة.
بخلاف هذه الرؤية تمسك الموسوي بوصل العلاقة بين النقد الأدبي والنقد الثقافي، مستبعدا القطع بينهما، معتبرا أن النقد الثقافي لا يمكن أن يتخلى عن النقد الأدبي لا بصفة الملازمة وإنما بصفة التمهر في قراءة النصوص، مقدرا أن فائدة نظرية الأدب بالنسبة إلى النقد الثقافي لا تتوقف عند حد معين، وأخص فائدة لها تكمن في القدرة على تملِّي النص بأدوات متقصية، منتهيا إلى أن النقد الثقافي لا يستقيم مفهوما من دون فهم لمعنى النظرية.
هذا التمسك من الموسوي بوصل العلاقة بين النقدين الأدبي والثقافي، جاء مستندا إلى ما تقرر عند النقاد الثقافيين الذين ينظرون إلى النقد الثقافي لا بصفته فرعا من فروع المعرفة، وإنما بصفته فعالية تستعين بالنظريات والمفاهيم والنظم المعرفية لبلوغ ما تأنف المناهج الأدبية من الخوض فيه.
وبحسب هذا الرأي، فإن النقد الثقافي ما زال في وضعية لم يستقل بذاته متفردا بنوع معرفي يتمايز به بين فروع المعرفة من النواحي المنهجية والإجرائية والنظرية، ومن ثم فهو بحاجة إلى فروع المعرفة الأخرى، ومنها النقد الأدبي الذي تربطه به وشائج وطيدة.
وتفارق الغذامي عن الموسوي في ناحية التفريق بين ثلاثة مصطلحات هي: «نقد الثقافة والنقد الثقافي والدراسات الثقافية». فالغذامي يرى أن من الضروري التمييز بين هذه المصطلحات الثلاثة التي التبست في نظره على كثير من الناس وخلطوا بينها، واضعا حدودا تفصل بينها، معتبرا أن ”نقد الثقافة“ يصدق على تلك المشروعات البحثية التي عرضت لقضايا الفكر والمجتمع والسياسة في ثقافتنا العربية. ويصدق مفهوم ”الدراسات الثقافية“ على عمليات إنتاج الثقافة وتوزيعها واستهلاكها، أما ما هو بصدده فيتحدد بتخصيص مصطلح ”النقد الثقافي“ ليكون مصطلحا قائما على منهجية أدواتية وإجرائية تخصه.
هذا التفريق بهذه الحدود الفاصلة بين المصطلحات الثلاثة المذكورة لا نراه عند الموسوي، فمن جهة يرى الموسوي أن النقد الثقافي ظهر بعد الاهتمام بالدراسات الثقافية، واعتبر من جهة أخرى أن في تراث القدامي وفي كتابات بعض المعاصرين ما يمكن أن يندرج ضمن نقد ثقافي، متحدثا عن هذا الأمر بطريقة تساؤلية قائلا: ما المانع من العودة إلى تراث القدامى وقراءة متونه على أنها نقد ثقافي؟ وما الضير في قراءة رد محمود أمين العالم وعبدالعظيم أنيس على كتاب ”مستقبل الثقافة في مصر“ لطه حسين على أنه نقد ثقافي؟ ولماذا لا تبدو كتابة طه حسين كذلك؟ مقدرا أن النقد الثقافي يمثل وعيا واسعا يتجاوز الحدود التي تعارف عليها نقاد الأدب سابقا.
ويتفارق الغذامي عن الموسوي كذلك في ناحية النظر إلى النقد الأدبي والنظرية النقدية سعة وضيقا. فالغذامي ناظرا إلى المجال العربي فإنه يرى أن النقد الأدبي أصبح محدودا وضيقا، يتعامل مع المجاز والخيال وليس مع الحقيقة والواقع، وليس له دخل في أي حقيقة أخرى دينية أو سياسية أو تاريخية، ولم يعد قادرا على تحقيق متطلبات المتغير المعرفي والثقافي الضخم عالميا وعربيا.
في المقابل فإن الموسوي ناظرا إلى المجال العالمي ومستندا إلى الأدب الغربي نراه يصور النظرية الأدبية بالاتساع الذي لا حد له، وكأنها من شدة سعتها تتميز بعدم الانتظام، معتبرا أن النظرية سلكت مجموعة من المسارات والسياقات من دون التوقف عندها، عائدا إلى رأي الناقد الأمريكي فنسنت ليتش، مؤرخ بسنة 2003م، يرى فيه أن النظرية في سياقها المعاصر تحيل إلى كيان من النصوص قديمة وحديثة معنية بالشعرية ونماذجه الثقافية، مضيفا إليها السيميائيات ووسائل الاتصال والخطاب والشفرات الخاصة بالعنصر والطبقة والجنوسة وبالثقافة المرئية والشعبية، كما أنها تعني ضربا من التساؤل المعني بالحكم والريبة والمنطق متأثرة بالتحليل النفسي وما بعد البنيوية والدراسات الثقافية. وبناء على ذلك صور الموسوي مستحسنا أن النقد الثقافي يؤول إلى فعالية نشيطة.
أما الانقطاع من الناحية التفاعلية بين هاتين المحاولتين، فقد كشف عنه الموسوي الذي جاءت محاولته متأخرة بما يقارب خمس سنوات على تاريخ محاولة الغذامي، مع ذلك قدم كتابه مصورا أن لا وجود لكتاب باللغة العربية يعنى بهذا الشأن، مبرزا هذه الملحوظة، ومفتتحا بها السطر الأول من توطئة كتابه قائلا: «لم يظهر من قبل كتاب باللغة العربية يعنى تفصيلا بالمكونات النظرية ولا بالنقد الثقافي».
وتأكيدا لرأيه وجزما به يرى الموسوي أن القارئ العربي لم يزل وكذلك المؤسسات الأكاديمية بعيدين كثيرا مما يجري اليوم من نقاش مطول حول النظرية الثقافية والأدبية بين صفوف المثقفين والأكاديميين وفي داخل مجموعة المنظرين، وتحديدا منذ التغيرات المنهجية والفلسفية، مطالبا في نهاية الكتاب بأهمية تفعيل الوعي على أصعدة الأفراد والجماعات لإدراك أن قضية النقد الثقافي عربيا هي مهمة كبيرة وشائكة، وليست ثانوية شأن الاختصاصات والممارسات الاعتيادية التي درج عليها الدرس الأكاديمي والصحافة الأدبية.
الأمر الذي يعني أن الموسوي لم يكن على دراية بمحاولة الغذامي، مع أنها عدت من أبرز المحاولات العربية التي أثارت جدلا، وحركت نقاشا في النطاق العربي، ممتدا مشرقا ومغربا. ويبدو أن متابعة الموسوي لهذه القضية في المجال الغربي كانت أوسع من متابعته لها في المجال العربي، وظهر ذلك متجليا في كتابه الذي حضرت فيه بشكل واضح أسماء الغربيين أدباء ونقاد ومفكرين، وتكثفت نصوصهم، والإشارة إلى تأليفاتهم، لكونهم المؤسسين لهذه القضية مبنى ومعنى، بنية وتكوينا في هذه الأزمنة المعاصرة.
بهذا الغياب انقطعت إمكانية التفاعل النقدي التزامني بين أهم محاولتين ظهرتا في وقتهما خلال مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. وتميزت هاتان المحاولتان في أنهما جمعتا بين الخبرة النقدية من جهة وبين الدراية الأكاديمية من جهة أخرى، وقاربت كلتاهما بين المجالين الغربي والعربي لتقريب قضية النقد الثقافي ونقلها من المجال الغربي الذي تنتسب إليه إلى المجال العربي الذي ينتسب إليه الناقدان.
أمام هاتين المحاولتين تفريقا وتمييزا، يمكن القول: إن الغذامي أراد تقديم أطروحة تمثلت في الإعلان عن موت النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي مكانه، بينما أراد الموسوي تقديم معرفة ناضجة عن النقد الثقافي مطالبا الوعي بهذه القضية عربيا، ظنا منه أن القارئ العربي ما زال آنذاك بعيدا مما يدور حول هذه القضية من نقاش في ساحة الغربيين مثقفين وأكاديميين ومنظرين. لذا جاز القول: إن الوعي بفكرة الأطروحة وتقديم أطروحة هو أوضح عند الغذامي مقارنة بالموسوي.
من جانب آخر، تميزت محاولة الغذامي في أنها أثارت جدلا وحركت نقاشا، وعرفت على نطاق عربي واسع ممتدا مشرقا ومغربا مسجلة امتيازا من هذه الناحية، بينما محاولة الموسوي جاءت هادئة، وغلب عليها الطابع البحثي والأكاديمي، ولم تتسم لا بالإثارة ولا بالدهشة، ولم تعرف على نطاق عربي واسع مسجلة ضعفا من هذه الناحية.
لكن ما أثار الاستغراب في محاولة الغذامي، أنه أعطى لنفسه الحق في الإعلان عن موت النقد الأدبي، وكأن لا حياة للنقد الثقاقي ولا قيام له إلا بهذا الموت، بالشكل الذي أثار عليه حفيظة النقاد والأدباء في مشرق العالم العربي ومغربه، مختلفين معه ومعترضين. وكان بإمكانه الدفاع عن النقد الثقافي، والنهوض به، والانتصار له، بعيدا عن هذه الدعوة المثيرة للجدل.
وبدلا من هذه الدعوة التي فيها ما فيها، وعليها ما عليها، كان من الأسلم للغذامي إعادة ترتيب العلاقة بين النقدين الأدبي والثقافي، بإعطاء الأفضلية في هذه الأزمنة المعاصرة إلى النقد الثقافي، وترتيب العلاقة بينهما بطريقة يتقدم فيها النقد الثقافي على النقد الأدبي، استنادا إلى خلفية ترى أن النقد الأدبي أصبح نقدا مستهلكا، ولم يعد بتلك الفاعلية المفترضة، ومن ثم فإن من الضروري الإلتفات إلى النقد الثقافي بوصفه نقدا ناهضا ومتجددا ومتسما بالفاعلية المؤثرة، لذا فإن الحاجة إليه تتقدم على النقد الأدبي بعيدا من الدعوة إلى موته.