آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

عاشوراء الرسالة والفاجعة

الشيخ حسن الصفار *

لواقعة كربلاء العظيمة وجهان أساسان يشكلان صورتها الواحدة.

الوجه الأول: هو الرسالة التي تحملها، وهي تعزيز القيم، وتثبيت المبادئ التي نادى بها الحسين وأصحابه، والتزموا بها، واستشهدوا من أجل الدفاع عنها.

الوجه الآخر: هو المأساة الدامية، والمصيبة المفجعة، التي نالت أهل بيت الرسالة في كربلاء.

إن مفردات القيم التي تمثل رسالة عاشوراء، واضحة جلية في كلمات الإمام الحسين، بطل هذه النهضة المقدسة، وليست مجرد اجتهادات واستنتاجات يطرحها هذا وذاك.

قيم يجب أن تسود

وهي قيم يجب أن تسود حياة الأمة على المستوى الاجتماعي والفردي، فمن قيم كربلاء على المستوى الاجتماعي للأمة، ما أعلنه الحسين بصراحة ووضوح عن دافع حركته وثورته، حيث قال: «إِنَّمَا خَرَجْتُ أطَلَبِ اَلْإِصْلاَحِ فِي أُمَّةِ جَدِّي ﷺ، أُرِيدُ أَنْ آمُرَ بِالْمَعْرُوفِ، وَأَنْهَى عَنِ اَلْمُنْكَرِ».

فإصلاح واقع الأمة شعار وهدف لثورة الحسين .

كما أعلن الإمام الحسين أن إقامة الحق، ومواجهة الباطل، هو باعثه للنهوض، يقول : «ألا تَرَونَ أنَّ الحَقَّ لا يُعمَلُ بِهِ، وأنَّ الباطِلَ لا يُتَناهى‌ عَنهُ! لِيَرغَبِ المُؤمِنُ في لِقاءِ اللَّهِ مُحِقّاً؛ فَإِنّي لا أرى‌ المَوتَ إلّا شَهادَةً، ولا الحَياةَ مَعَ الظّالِمينَ إلّا بَرَماً».

وهو يدعو الناس للتمسك بحقهم في الحرية، فهي منحة الله لبني البشر، ومقوم إنسانيتهم، حتى لو لم يدينوا بدين، قال : «إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ دِينٌ وَكُنْتُمْ لاَ تَخَافُونَ اَلْمَعَادَ فَكُونُوا أَحْرَاراً فِي دُنْيَاكُمْ».

وكذلك قيمة العزة والكرامة، فلا مجال في رؤية الحسين للتنازل عنها، فالذل والخنوع مرفوض من قبل الله ورسوله، ولا يقبله مجتمع المؤمنين، يقول : «هَيهاتَ مِنّا الذِّلَّةُ، يَأبَى اللَّهُ لَنا ذلِكَ ورَسولُهُ وَالمُؤمِنونَ، وحُجورٌ طابَت، وحُجورٌ طَهُرَت، واُنوفٌ حَمِيَّةٌ ونُفوسٌ أبِيَّةٌ، مِن أن تُؤثَرَ طاعَةُ اللِّئامِ عَلى‌ مَصارِعِ الكِرامِ».

هذه نماذج وعينات، ليست على سبيل الحصر والاستقصاء، من مفردات القيم التي تستهدف الواقع العام للأمة في رسالة عاشوراء.

وهناك قيم على مستوى السلوك الفردي، تجلت في ممارسات أبطال كربلاء، وهي بلا شك جزء لا يتجزأ من رسالة عاشوراء، من خلال مبدأ التأسي والاقتداء بالحسين وأصحابه الشهداء.

قيمة التعبّد لله

وفي طليعتها: قيمة التعبد لله، والاقبال على طاعته، والاهتمام بالبعد الروحي في التواصل مع الله سبحانه وتعالى.

كما ينقل التاريخ عن أجواء ليلة العاشر من المحرم عند الحسين وأصحابه، فقد جاء في تاريخ الطبري وغيره من المصادر: أن عمر بن سعد أمر عسكره أن يزحفوا نحو الحسين وأصحابه عصر يوم تاسوعاء، فأمر الحسين أخاه العباس قائلًا: «إِنِ استَطَعتَ أن تُؤَخِّرَهُم إلى‌ غُدوَةٍ وتَدفَعَهُم عِندَ العَشِيَّةِ؛ لَعَلَّنا نُصَلّي لِرَبِّنَا اللَّيلَةَ، ونَدعوهُ ونَستَغفِرُهُ، فَهُوَ يَعلَمُ أنّي قَد كُنتُ اُحِبُّ الصَّلاةَ لَهُ، وتِلاوَةَ كِتابِهِ، وكَثرَةَ الدُّعاءِ وَالاِستِغفارِ» ووافق ابن سعد بعد تردد واختلاف بين أصحابه، «فَباتَ الحُسَينُ تِلكَ اللَّيلَةَ راكِعاً ساجِداً باكِياً مُستَغفِراً مُتَضَرِّعاً، وباتَ أصحابُهُ ولَهُم دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحلِ».

وفي وسط المعركة نقرأ قصة أبي ثمامة الصيداوي، وتذكيره بالصلاة، فقد التفت إلى زوال الشمس، فقال للحسين : «يا أبا عَبدِ اللَّهِ، نَفسي لَكَ الفِداءُ! إنّي أرى‌ هؤُلاءِ قَدِ اقتَرَبوا مِنكَ، ولا وَاللَّهِ، لا تُقتَلُ حَتّى‌ اُقتَلَ دونَكَ إن شاءَ اللَّهُ، واُحِبُّ أن ألقى‌ رَبّي وقَد صَلَّيتُ هذِهِ الصَّلاةَ الَّتي دَنا وَقتُها. وعندما سمع الإمام الحسين كلام أبي ثمامة رفع رأسه وقال: «ذَكَرتَ الصَّلاةَ، جَعَلَكَ اللَّهُ مِنَ المُصَلّينَ الذّاكِرينَ! نَعَم، هذا أوَّلُ وَقتِها. ثُمَّ قالَ: سَلوهُم أن يَكُفُّوا عَنّا حَتّى‌ نُصَلِّيَ». وبعد أخذ ورد وافق ابن سعد، فصلى الحسين بأصحابه صلاة الخوف ظهرًا.

وتقدم أمام الحسين لحمايته زهير بن القين، وسعيد بن عبدالله الحنفي، الذي كان يقي الحسين السهام، فأصابته السهام حتى وقع على الأرض صريعًا.

قرار التغيير والتصحيح

ومن القيم التي تجلت في سلوك أصحاب الحسين ، شجاعة اتخاذ قرار التغيير والتصحيح.

فزهير بن القين، كان عثماني الهوى، وكان يتفادى لقاء الحسين ، فلما التقاه وسمع منه، قرر فورًا تغيير موقفه، والالتحاق به.

والحر بن يزيد الرياحي، كان قائدًا في معسكر ابن سعد، فلما رأى عزم القوم على قتل الحسين، واقتنع بأحقية موقف الحسين وظلامته، قرر الانتقال إلى معسكر الحسين، وقال: «إنّي وَاللَّهِ، اُخَيِّرُ نَفسي بَينَ الجَنَّةِ وَالنّارِ، ووَاللَّهِ، لا أختارُ عَلَى الجَنَّةِ شَيئاً ولَو قُطِّعتُ وحُرِّقتُ».. وكذلك فعل آخرون مثله.

ومن تلك القيم المهمة، احترام حقوق الآخرين، حيث أمر الحسين ليلة العاشر من محرم، مناديًا ينادي بين أصحابه: «لا يُقْتَلَ مَعي رَجُلٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ»، فقام إليه رجل من أصحابه فقال له: إنّ علي ديناً وقد ضمنته زوجتي، فقال : «وما ضمان امرأة؟»

المصيبة والفجيعة

هذا في جانب رسالة عاشوراء، أما الجانب الآخر فهو المصيبة والفجيعة، فقد شاءت حكمة الله أن تصطبغ ثورة الحسين بلون المأساة والظلامة البالغة، وقد ورد عن الحسين أنه رأى جده رسول الله ﷺ في المنام وقال له: «إِنَّ اللَّهَ قَد شاءَ أن يَراكَ قَتيلاً».. «إنَّ اللَّهَ قَد شاءَ أن يَراهُنَّ [نساؤه وعياله] سَبايا».

هذا الطابع المأساوي هو العامل المساعد، والرافعة المهمة، لتحقيق الإنجاز في ثورة الإمام الحسين، فهو الذي فضح جور الحكم الأموي، وأثار نفوس أبناء الأمة ضده، وحرّك الضمائر والمشاعر لإدانته ورفضه، وذلك ما عبرت عنه الثورات الغاضبة ضد الحكم الأموي بعد واقعة كربلاء، كثورة أهل المدينة، وابن الزبير في مكة، وثورة التوابين في الكوفة، وثورة المختار الثقفي، وغيرها من الثورات والانتفاضات.

كما أن بشاعة هذا الظلم الفادح لأهل البيت ، هي التي صنعت أجواء التعاطف في قلوب الناس على مرّ التاريخ، مع الحسين وأهل بيته .

الإحياء الحقيقي لعاشوراء

من هنا فإن الاحياء الحقيقي والمطلوب لذكرى عاشوراء، لابد وأن يستحضر هذين البعدين الاساسين فيها: الرسالة والمصيبة.

إنه لا يصح تجاهل رسالة الثورة الحسينية، والاستغراق في الجانب العاطفي فقط، وكأن البكاء على المصيبة وحده هو الهدف والغاية، مع صريح كلام الحسين في أهداف خروجه وحركته، كما أن الزيارات الواردة للإمام الحسين تركز على ذكر القيم والمبادئ الحسينية، إلى جانب ذكر الظلامة والمصيبة.

فقد جاء في زيارة الإمام الحُسين : «أَشْهَدُ أَنَّكَ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ وَأَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَجَاهَدْتَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ حَتَّى اسْتُبِيحَ حَرِيمُكَ وَقُتِلْتَ مَظْلُوماً».

وجاء في زيارة العباس : «أشْهَدُ أَنَّكَ أَقَمْتَ الصَّلَاةَ وَآتَيْتَ الزَّكَاةَ وَ أَمَرْتَ بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَيْتَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اتَّبَعْتَ الرَّسُولَ وَ تَلَوْتَ الْكِتَابَ حَقَّ تِلَاوَتِهِ وَ جَاهَدْتَ فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَ نَصَحْتَ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ، وَ جُدْتَ بِنَفْسِكَ صَابِراً مُحْتَسِباً وَ عَنْ دِينِ اللَّهِ مُجَاهِداً وَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ مُوقِناً وَ لِمَا عِنْدَ اللَّهِ طَالِباً وَ فِيمَا وَعَدَ رَاغِباً وَ مَضَيْتَ لِلَّذِي كُنْتَ عَلَيْهِ شَهِيداً وَ شَاهِداً وَ مَشْهُوداً فَجَزَاكَ اللَّهُ عَنْ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَعَنِ الْإِسْلَامِ وَ أَهْلِهِ أَفْضَلَ الْجَزَاءِ».

ولا تكاد تخلو زيارة من الزيارات الواردة للإمام الحسين وأصحابه، عن مثل هذه الفقرات، وذلك يعني التأكيد على استحضار قيم الثورة الحسينية عند ذكر الحسين، فإحياء ذكراه يتم باستحضارها، حتى تترسّخ في الأذهان والنفوس، وتتحول إلى مواقف وممارسات في سلوك الموالين المحبين للحسين، المحيين لذكراه والقاصدين لزيارته.

التفاعل العاطفي الوجداني

ومخطئ من يدعو إلى تجاوز التركيز على المصيبة، أولًا: لأن ذلك مخالف لما أكّد عليه أئمة أهل البيت ، من التفاعل العاطفي الوجداني مع الواقعة، بذكر مصيبة الحسين، والبكاء عليه، وابداء الحزن والتألم لما أصابه، كما جاء في روايات كثيرة.

ثانيًا: لأن تجاهل الجانب العاطفي يُفقد الحادثة عمق تأثيرها في النفوس والقلوب، واجتذابها نحو الحسين كرمز وعنوان وقدوة وأسوة.

ثالثًا: إن في الحديث عن مصيبة الحسين تبيانًا لصبره وتحمله وتضحيته، هو وأصحابه في سبيل الله. وذلك ما يلهم الناس روح التضحية، وصفة التحمل والصبر على المصائب والآلام من أجل الله، وابتغاءً لثوابه.

لذلك نجد الحسين يؤكد على صفة الصبر والتحمّل في المواقف الصعبة المؤلمة من أحداث عاشوراء، فعندما قُتل على صدره طفله الرضيع تَلَقَّى الدَّمَ بِكَفَّيهِ حَتَّى امتَلَأَتا، ورَمى‌ بِالدَّمِ نَحوَ السَّماءِ وقالَ: «هَوَّنَ عَلَيَّ ما نَزَلَ بي أنَّهُ بِعَينِ اللَّهِ».

وروي أنه بعد أن قتل جماعة من أهل بيته، قال: «صَبراً يا بَني عُمومَتي، صَبراً يا أهلَ بَيتي، صَبراً فَوَاللَّهِ لا رَأَيتُم هَواناً بَعدَ هذَا اليَومِ أبَداً».

رابعًا: إن طبيعة الصور والمشاهد التي نقلها التاريخ عن واقعة كربلاء، لها تأثير عاطفي وجداني قهري، يصعب على أي إنسان سوي المشاعر، ألا يتفاعل معها، حتى وإن لم يكن محبًا أو مواليًا للحسين .

بل حتى أعداء الحسين وقتلته لم يملكوا عواطفهم ووجدانهم تجاه تلك المصائب.

جاء في تاريخ الطبري وابن الأثير والبداية والنهاية، عن عبدالله بن عمار، وبعضها عن حميد بن مسلم، أنه عند مصرع الحسين ، خَرَجَت زَينَبُ ابنَةُ فاطِمَةَ اُختُهُ، وهِيَ تَقولُ: لَيتَ السَّماءَ تَطابَقَت عَلَى الأَرضِ، وقَد دَنا عُمَرُ بنُ سَعدٍ مِن حُسَينٍ ، فَقالَت: يا عُمَرَ بنَ سَعدٍ، أيُقتَلُ أبو عَبدِ اللَّهِ وأنتَ تَنظُرُ إلَيهِ؟

قالَ: فَكَأَنّي أنظُرُ إلى‌ دُموعِ عُمَرَ وهِيَ تَسيلُ عَلى‌ خَدَّيهِ ولِحيَتِهِ».

وجاء في سير أعلام النبلاء، والطبقات الكبرى: «اُخِذَ ثَقَلُ الحُسَينِ ، وأخَذَ رَجُلٌ حُلِيَّ فاطِمَةَ بِنتِ الحُسَينِ ، وبَكى‌.

فَقالَت: لِمَ تَبكي؟

فَقالَ: أأَسلُبُ بِنتَ رَسولِ اللَّهِ ﷺ، ولا أبكي؟

قالَت: فَدَعهُ!

قالَ: أخافُ أن يَأخُذَهُ غَيري».

حقًا إن مصاب الحسين يوم عاشوراء يدمي القلب، ويفجر العواطف والمشاعر، وكما يقول الأديب المصري خالد محمد خالد «ت: 1416 هـ» إنها الفاجعة التي: «تذيب الصخر وتصهر الحديد».

ويتحدث الأستاذ رشاد سلامة، عن تفاعل أبيه الشاعر اللبناني المسيحي المعروف بولس سلامة مع مصرع الإمام الحسين، حينما كتب قصيدته حوله، فيقول: «إني لشاهد على فصل من حياة والدي، ألمح إليه في كتاباته، فأسماه الليلة الرهيبة، وقد عنى الليل الذي نظم في عتمته مصرع الإمام الحسين .

ومؤدَّى ذلك، أني دخلت غرفة والدي صباح ذات يوم بعد أن سمعت رنين الجرس الذي يؤذن بيقظته، فألقيت التحية ورحت كالعادة أجمع إلى ما وراء وسادته الغطاء المرفوع فوق سريره، فوقعت يدي على المخدة فوجدتها مبللة، فسألته في الأمر، وكنت قد ظننت أنه سكب الماء فوقها بالخطأ، فأجاب لا، ثم ظننت أنه تعرّق، ولم يكن الزمن زمان القيظ، بل كان في صقيع الشتاء، فأجاب لا، فقلت له: إن الوسادة رطبة ومبللة، فقال: اعلم يا بني أني نظمت الليلة فاجعة كربلاء، وسطّرت في عيد الغدير مصرع الإمام الحسين.

أجل! لم يكن الماء سبب البلل، ولا كان الحر هو السبب، ولا تصبّب العرق بفعل القيظ، بل كانت على وسادته حرق من كبده، ودموع سكبت مع مجرى القلم، فأدركت إلى أيِّ حدٍّ كان بولس سلامة مندمجًا مع حال أبطاله، وإلى أيِّ مدى كان شريك آلامهم، وحليف راياتهم، وبتُّ أفهم بالتمام القصيدة التي وضعها في زمن لاحق، والأبيات التي منها:

بكيت حتى وسادي نشَّ من حرقوضجَّ في قلمي إعوال منتحب

أنا المسيحي أبكاني الحسين وقدشرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي»

فلم يكن مقتل الحسين كما هو متعارف في الحروب والمعارك، بل كان في غاية الوحشية والقسوة، التي يصعب تصورها وتحمّلها، وكنموذج لبعض مظاهر تلك الوحشية التي مارسها المعسكر الأموي مع الحسين نقرأ في تاريخ الطبري أنه: «وُجِدَ بِالحُسَينِ حينَ قُتِلَ، ثَلاثٌ وثَلاثونَ طَعنَةً، وأربَعٌ وثَلاثونَ ضَربَةً».

وفي كتاب الاُصول الستة عشر، عن الإمام محمد الباقر : «ولَقَد قَتَلوهُ [الحسين] قِتلَةً نَهى‌ رَسولُ اللَّهِ ﷺ أن يُقتَلَ بِهَا الكِلابُ، ولَقَد قُتِلَ بِالسَّيفِ وَالسِّنانِ، وبِالحِجارَةِ وبِالخَشَبِ وبِالعِصِيِّ، ولَقَد أوطَؤوهُ‌ الخَيلَ بَعدَ ذلِكَ».

لا حاجة للمبالغة والاختلاق

ومما يجب التنبيه إليه، أن البعض قد يلجأ في سياق إظهار عظيم ما وقع على الحسين وآله في كربلاء، من الفجائع والمصائب، إلى أسلوب المبالغة، أو اختلاق أحداث لم يرد ذكرها في مصدر معتبر.

وهذا ما يصدق عليه عنوان الكذب والافتراء، وهو حرام شرعًا، ولا يصح تبريره بأن الغاية منه إظهار ظلامة الحسين وأهل البيت، وإثارة التعاطف معهم، والإبكاء عليهم، فإن الغاية السليمة لا تبرر الوسيلة المحرمة.

كما أن ذلك يسلب المصداقية والثقة، وقد يدفع إلى التشكيك فيما هو صحيح.

ولا تحتاج مظلومية الحسين ولا إثارة الحزن عليه إلى هذه الأساليب والطرق الملتوية، ففيما نقلته المصادر المعتبرة ما يكفي وزيادة.

لقد أصبحت المبالغة والاختلاق في أخبار مصائب عاشوراء ظاهرة سلبية منتشرة في أوساط بعض الكتاب والمتحدثين عن هذه الواقعة العظيمة، وذلك ما دفع العلماء المحققين الغيورين على تراث أهل البيت ، إلى التصدي لها والتنديد بها.

فقد ألّف المحدث الشيخ حسين النوري «ت: 1320 هـ» مؤلف مستدرك الوسائل، كتابًا حول هذه الظاهرة بعنوان «اللؤلؤ والمرجان في آداب أهل المنبر» تحدث فيه عن ظاهرة الكذب والاختلاق للروايات والأخبار على لسان خطباء المنابر، والمبررات التي تجرّؤهم على ذلك، ومما قاله: «في ذكر بعض الشبهات التي حملت هذه الجماعة، بل بعض أرباب التأليف، على نقل الأخبار والحكايات التي لا أساس لها، والروايات التي لا يحتمل صدقها، أو التي يكون احتمال صدقها في غاية الضعف، وعلى افتراء الكذب، وجعل الأخبار ووضعها، واختلاق الحكايات المتضمنّة للمصائب التي لا واقع لها، من أجل إبكاء المؤمنين وإضفاء الرونق على مجالس العزاء».

ويبيّن أنّ من ذلك: «ما نقل عن بعض مختلقي الكذب من الأخبار التي تمدح الإبكاء، وترغّب فيه، وما سُطّر في هذا المجال، مما يوحي بأنّ كلّ ما يحمل على البكاء، وما هو وسيلة للتفجّع وإسالة الدموع ممدوح ومستحسن، ولو كان كذبًا وافتراء».

ويضيف: «ولا يخفى على كلّ ذي شعور أنّ هذا النمط من الكلام خلاف ضروريات الدين والمذهب، وخروج عن الملة والإسلام. وجواب أصل هذه الشبهة مشروح في الفقه في كتاب المكاسب، ومجمله الذي يمكن إيراده هنا: أنّ المستحب مهما كان عظيمًا، لا يمكنه أن يعارض الحرام مهما كان حقيرًا، ولا يطاع الله من حيث يعصى، ولا يكون ما يوجب عقوبة الله وسخطه داعيًا للتقرب منه».

ونقل المحدث الشيخ عباس القمي «ت: 1359 هـ» مؤلف كتاب مفاتيح الجنان، في كتابه «منتهى الآمال» عن كتاب «الأربعين الحسينية» للميرزا محمد بن محمد تقي القمي نصيحة بالغة وموعظة جامعة.. منها: وأضحى جماعة من ذاكري المصائب لا يتورعون عن اختراع وقائع مبكية وكثر اختراع الأقوال منهم واعتبروا أنفسهم يشملهم الحديث «من أبكى فله الجنة»، وشاع هذا الكلام الكاذب مع الأيام حتى صار يظهر في مؤلفات جديدة، وإذا حاول محدث أمين مطلع منع هذه الأكاذيب، نسبوها إلى كتاب مطبوع أو كلام مسموع أو تمسكوا بقاعدة التسامح في أدلة السنن، وتوسلوا منقولات ضعيفة توجب اللوم والتوبيخ من الملل الأخرى، كجملة من الوقائع المعروفة التي ضبطت في الكتب الجديدة في حين أنه لا عين ولا أثر لهذه الوقائع عند أهل العلم والحديث كعرس القاسم في كربلاء الذي نقله في كتاب «روضة الشهداء» من تأليف الفاضل الكاشفي وقام الشيخ الطريحي وهو من أجلة العلماء والمعتمدين بنقله عنه ولكن في كتاب «المنتخب» أموراً كثيرة جرى التساهل والتسامح بها وهي لا تخفى على أهل البصيرة والاطلاع».

وأشار غيره من الفقهاء والمحققين إلى لزوم التدقيق فيما يذكر في واقعة كربلاء، فهذا السيد الأمين رحمه الله يقول مبينا خطورة ما يلجأ إليه بعض الخطباء: «ولكن كثيرًا من الذاكرين لمصابهم قد اختلقوا أحاديث في المصائب وغيرها لم يذكرها مؤرخ ولا مؤلف، ومسخوا بعض الأحاديث الصحيحة وزادوا ونقصوا فيها لما يرونه من تأثيرها في نفوس المستمعين الجاهلين بصحة الأخبار وسقمها حتى حفظت على الألسن وأودعت في المجامع واشتهرت بين الناس ولا من رادع وهي من الأكاذيب التي تغضبهم وتفتح باب القدح للقادح فإنهم لا يرضون بالكذب الذي لا يرضي الله ورسوله ﷺ وقد قالوا لشيعتهم: كونوا زينا لنا ولا تكونوا شينا علينا، وقد اكتسبوا هم ومن قبلها منهم وأقرهم عليها الإثم المبين، فإن الله لا يطاع من حيث يعصى ولا يتقبل الله إلا من المتقين، والكذب من كبائر الذنوب الموبقة لا سيما إن كان على النبي ﷺ وأهل بيته الطاهرين».

خطيب وكاتب سعودي «القطيف»