القراءة الموضوعية في السيرة الحسينية
في تاريخ المجتمعات البشرية هناك أحداث متميّزة بعمق تأثيراتها، وسعة انعكاساتها على رقعة الزمان والمكان، وفي تاريخنا الإسلامي تبرز نهضة الإمام الحسين ، وشهادته في كربلاء، سنة 61 هـ، كحدث فريد متميّز، لا يزال الاحتفاء به والتفاعل معه يتجدّد في محيط بشري واسع كلّ عام، بأعلى درجات التفاعل، رغم مرور أربعة عشر قرنًا على وقوعه، ويتجلّى التفاعل الأبرز في أيام ذكرى هذا الحدث، في العشرة الأولى من شهر محرم الحرام، مطلع كلّ عام هجري.
حيث يحيي هذه الذكرى أتباع مدرسة أهل البيت من المسلمين الشيعة، الذين قد يبلغ عددهم نصف مليار تقريبًا، في مختلف أنحاء الكرة الأرضية، ويأخذ هذا الإحياء منحًى أهليًّا جماهيريًّا عامًّا، تشارك فيه مختلف الشرائح والطبقات، رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، ضمن برامج ثقافية هائلة، وأجواء عاطفية واجتماعية مؤثرة، تأخذ أشكالًا متنوعة، ومجالات متعددة.
هذا الإحياء ليس مجرّد موروث تاريخي أو عادة اجتماعية، وإنّما ينطلق الشيعة في إحيائهم لهذه الذكرى من منطلق ديني؛ لأنّ هذا الإحياء مظهر لمودة أهل البيت ومحبّتهم، التي أمر الله بها في القرآن الكريم، حيث يقول الله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾ ، وأمر بها رسول الله ﷺ حيث قال: (أَحِبُّوا أَهْلَ بَيْتِي لِحُبِّي)، ولأنّ أئمة أهل البيت الذين يدين الشيعة بإمامتهم، قد أوصوا بإحياء هذه الذكرى، حيث وردت عنهم نصوص وروايات كثيرة، تحث على ذكر شهادة الحسين، والتفاعل معها عاطفيًّا ووجدانيًّا، ووردت أحاديث في كتب الشيعة والسنة تدلّ على اهتمام رسول الله ﷺ بهذه الحادثة قبل وقوعها.
كالحديث الذي أخرج الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بسند صححه الألباني، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ، أَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي رَأَيْتُ حُلْمًا مُنْكَرًا اللَّيْلَةَ. قَالَ: (وَمَا هُوَ؟) قَالَتْ: إِنَّهُ شَدِيدٌ. قَالَ: (وَمَا هُوَ؟) قَالَتْ: رَأَيْتُ كَأَنَّ قِطْعَةً مِنْ جَسَدِكَ قُطِعَتْ وَوُضِعَتْ فِي حِجْرِي. فَقَالَ: (رَأَيْتِ خَيْرًا، تَلِدُ فَاطِمَةُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ غُلَامًا، فَيَكُونُ فِي حِجْرِكِ). فَوَلَدَتْ فَاطِمَةُ الْحُسَيْنَ، فَكَانَ فِي حِجْرِي كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، فَدَخَلْتُ يَوْمًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَوَضَعْتُهُ فِي حِجْرِه، ثُمَّ حَانَتْ مِنِّي الْتِفَاتَةٌ، فَإِذَا عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تُهَرِيقَانِ الدُّمُوعَ. قَالَتْ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، مَا لَكَ؟ قَالَ: (أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ أُمَّتِي سَتَقْتُلُ ابْنِي هَذَا). فَقُلْتُ: هَذَا؟ قَالَ: (نَعَمْ، وَأَتَانِي بِتُرْبَةٍ مِنْ تُرْبَتِهِ حَمْرَاءَ).
وقد صحح علماء الحديث من أهل السنة عددًا من تلك الأحاديث التي رواها عدد من الصحابة وأمهات المؤمنين، فهي متعدّدة الرواة والأسانيد، تنقل مثل هذا المشهد عن رسول الله ﷺ، أنه يتحدّث عمّا سيجري على سبطه الحسين، ويبدي حزنه وتألمه لما سيقع عليه، وذلك قبل وقوعه بأكثر من نصف قرن، حيث كانت ولادة الحسين في السنة الرابعة للهجرة أو الثالثة، وشهادته مطلع سنة إحدى وستين، حتى أصبحت القضية مشهورة معروفة في أوساط البيت النبوي، ومن حوله من الأصحاب، كما أورد الحاكم النيسابوري في المستدرك بسنده عن ابن عباس قال: (ماكُنّا نَشُكُّ وأهلُ البَيتِ مُتَوافِرونَ أنَّ الحُسَينَ بنَ عَلِيٍّ يُقتَلُ بِالطَّفِّ).
إنّ أكثر أمهات المؤمنين لاحظن هذا المشهد من رسول الله، وكذلك عدد من الأصحاب، يقول الشوكاني في (درّ السحابة في مناقب القرابة والصحابة) بعد أن نقل بعض الأحاديث في الموضوع: (وأخرج نحو هذه الأحاديث (الطبراني) من حديث أم سلمة، وابن سعد من حديث عائشة، و(الطبراني) في (الكبير) من حديث زينب بنت جحش و(أحمد) و(أبو يعلى)، و(ابن سعد)، و(الطبراني) في (الكبير) من حديث علي، و(الطبراني) في (الكبير) أيضًا من حديث أبي أمامة، و(الطبراني) في (الكبير) من حديث أنس، و(الطبراني) في (الكبير) أيضًا من حديث أم سلمة وأبي سعد، و(الطبراني) في (الكبير) من حديث عائشة، و(ابن عساكر) من حديث زينب أم المؤمنين، و(ابن عساكر) من حديث أم الفضل بنت الحارث، زوج العباس).
كما شكّلت ظروف الحصار والاضطهاد التي مرَّت بالشيعة في عصور متلاحقة، حافزًا لإحياء هذه الذكرى، حفاظًا على هُويتهم، وتعزيزًا لانتمائهم، وتقوية لتماسكهم الداخلي، ولينقلوا هذا الولاء والانتماء للأجيال القادمة من أبنائهم.
وقد نال شيعة أهل البيت - وما زالوا - مكاسب كبيرة، بسبب إحيائهم لهذه المناسبة، واهتمامهم بهذه الذكرى العظيمة.
لدينا اليوم صورة تاريخية منقولة عمّا حدث في كربلاء، وعن سيرة الإمام الحسين ، وقد وصلتنا من خلال ظروف قاسية صعبة، فبعد الجريمة النكراء، المتمثلة في قتل الحسين وأصحابه وأبنائه، وسبي أسرته بتلك الطريقة البشعة، رأت السلطات الأموية نفسها في موقع يستلزم منها التبرير أمام الرأي العام، فسعت إلى تشويه نهضة الإمام الحسين، وإظهاره بمظهر الخارج على السلطة الشرعية، وباعث الانشقاق في الأمة، ومن ثم التعتيم على طبيعة الواقعة، ومحاصرة أخبارها، ومنع انتشار أحداثها، إلّا بالشكل الذي تريده.
وتوالت بعد الأمويين سلطات أخرى مناوئة لأهل البيت، اعتمدت النهج ذاته، وعاش أهل البيت وشيعتهم زمنًا طويلًا ظروفًا من الحصار والقمع، لا تسمح لهم بإظهار توجهاتهم وآرائهم، وهذا يعني فقد جزء من الحقائق والأخبار عن طبيعة الأحداث وسيرة رجالاتها.
لكنّ الحدث فرض نفسه، وانتشرت أخبار كثيرة عن تفاصيل الواقعة من مصادر مختلفة، بعضها ممن عاصر الواقعة من أسرة الحسين وأصحابه، كالإمام زين العابدين علي بن الحسين، وابنه الإمام محمد الباقر، والسيدة زينب بنت علي شقيقة الحسين، وكذلك سائر أفراد العائلة الحسينية.
وبعض أخبار الواقعة رواها أشخاص من معسكر يزيد بن معاوية، وهناك ما سجّله رواة محايدون حضروا الواقعة للمشاهدة والرواية كحميد بن مسلم.
ومع مرور الزمن تراكمت المعلومات والروايات عن تلك الحادثة، وكأيّ حادثة تاريخية تتعرّض مروياتها للزيادة والنقص، والمبالغة والتشويه، ويحصل تضارب واختلاف بين المرويات.
وهناك جانب التفسير والتحليل للواقعة وأحداثها، والمرويات حولها، حيث تتنوع وجهات النظر، وفقًا لتنوع القناعات والاتجاهات، ولوجود مصالح وأغراض تدفع باتجاه تحليلات وتفسيرات معيّنة.
ونجد أنفسنا الآن أمام كمٍّ كبير من المعلومات والروايات التاريخية لواقعة كربلاء، وسير شخصياتها، وأمام ألوان من التحليلات والتفسيرات لطبيعة الحادثة وأغراضها ومقاصدها، وهذا أمر طبيعي متوقع لكلّ حدث تاريخي، خاصة إذا كان ذا أهمية كبيرة، فبحجم أهمية الحدث تتعدّد الأسباب والبواعث للاختلاف فيه.
يمكننا الحديث عن ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الأول:
الاتجاه التقليدي الذي يرى ضرورة المحافظة على الرواية المألوفة المتداولة في كلّ مجتمع شيعي، وإن اختلفت تلك الرواية في تفاصيلها بين مجتمع وآخر، وتعزيز الاحتفاء العاطفي بهذه الذكرى، ويؤكّد على الطابع القدسي الغيبي لما يرتبط بقضية الحسين، فهي ليست من سنخ القضايا البشرية العادية، بل بطلها إمام معصوم، وشخصياتها أولياء مقربون، وهناك الكرامات والمعاجز والعناية الإلهية الخاصة، فلا ننحو بالواقعة نحو التفسيرات المادية الظاهرية.
ويضيف أصحاب هذا الاتجاه: لماذا ننشغل بالإشكالات والتساؤلات والتحليلات؟!
فلندع الناس يعيشون مع وجدانهم وعاطفتهم الولائية.
لذلك يقف أصحاب هذا الاتجاه في وجه كلّ من يمارس التحقيق والبحث في وقائع كربلاء، ويعتبرون ذلك إضعافًا للمناسبة، وتقليلًا من قدسية الذكرى، وتهوينًا لشأنها.
الاتجاه الثاني:
هو الاتجاه الناقد للحالة الدينية في المجتمع، الذي يتبنّى كلّ رأي يضعف تفاعل الجمهور مع القضايا الدينية، ومع الأحداث التاريخية المرتبطة بها، ويترصد كلّ نقد أو وجهة نظر معارضة، للتدليل على أسطورية الموروثات الدينية وعدم عقلانيتها، فيرفض المرويات التي لا تناسب توجهه، دون الاحتكام إلى ضوابط علمية، ودون أن نأخذ بالاعتبار مجمل المنظومة الشرعية التي يؤمن بها الملتزمون بالنهج الديني، لذلك يرحّب أصحاب هذا الاتجاه بأيّ إشكال على ما روي عن حادثة عاشوراء، دون أن يُكلّفوا أنفسهم عناء البحث والدراسة العلمية.
الاتجاه الثالث:
اتجاه يدعو إلى البحث والتحقيق العلمي الموضوعي، في أحداث السيرة الحسينية، لمعرفة الحقائق والمعلومات التي قد تكون مجهولة أو مهملة، ولفرز الروايات التاريخية المعتبرة من غيرها، وهو ما يقوم به الباحثون في السيرة النبوية مثلاً، فعلى رغم أهميتها في المجتمع الإسلامي، إلّا أنّها لم تدوّن إلّا في القرن الثاني للهجرة وما بعده، لذلك يواجه الباحثون مشكلات في دراساتهم للسيرة النبوية، تتمثل في اختلاف النقولات، وتضارب بعضها، ولا يعترض أحد على التحقيق والتمحيص في السيرة النبوية. وينبغي أن يكون الموقف كذلك من بحث السيرة الحسينية، فمن الطبيعي أن تتعرّض - كأيّ حدث تاريخي - إلى النقص والزيادة والتحريف، فتحتاج إلى بحث ودراسة.
ونحن معنيّون بتجديد البحث في السيرة الحسينية، لجمع الصورة كاملة - بالمقدار الممكن -، ولفرز وتمييز المرويات التاريخية، ضمن منهج محدّد. كما يتعامل الفقيه بمنهج محدّد مع الروايات التي تعالج المسائل الفقهية، أو الكلامي الذي يقرّر التفاصيل العقدية، من حيث دراسة المتن والسند، والمقارنة بين الروايات المختلفة والمتعارضة، على أساس القواعد الأصولية في التعارض والترجيح، والعرض على كتاب الله، والسنة الثابتة، وأحكام العقل.
خصوصًا أنّ أدوات البحث في هذا العصر متوفرة، أفضل من أيّ زمن مضى، فقد كان الباحثون في الماضي يجدون صعوبة في الحصول على المصادر، أو الوصول إلى بعض المخطوطات، لكنّ الشبكة العنكبوتية ذللت هذه الصعوبات، فأصبح الوصول إلى مختلف المصادر والكتب أمرًا ميسورًا، كما أنّ مناهج البحث شهدت تطورًا ملحوظًا، تُمكن الباحث من الحصول على النتائج بصورة أفضل وأوسع وأكثر عمقًا.
1. إنّ روايات وأخبار السيرة الحسينية لها انعكاس كبير على تكوين قناعات الجمهور الشيعي وسلوكياته، فلها بُعْدٌ عقدي فكري، وبُعْدٌ تشريعي فقهي، وبُعْدٌ أخلاقي سلوكي، فلا يصح أن تترك دون بحث وتمحيص.
2. أصبح المجتمع الشيعي اليوم تحت المجهر، حيث تسلّط عليه الأضواء، فعلينا أن نظهر صورة مشرقة لفكرنا ومذهبنا، وذلك بأن يكون الطرح علميًّا قابلًا للبرهنة والاستدلال، ولا يصح عرض روايات لا مصدر لها، ولا يكون لها تفسير مناسب، وإذا لم نقم بالنقد الذاتي فسنتعرض لتشهير الآخرين ونقدهم.
3. مع اتساع رقعة التعليم، وارتفاع مستوى الثقافة والمعرفة، والانفتاح على العالم وثقافاته، برزت لدى أبنائنا وجمهورنا تساؤلات، على ما يسمعونه من مرويات، فلا بُدّ من تقديم السيرة الحسينية بالطريقة اللائقة المقنعة، حتى لا يفقدوا الثقة بالتراث الديني، ويحصل لهم نفور ورد فعل من الشعائر الدينية، وهذا ما أكّدت عليه المرجعية الدينية، حيث دعا البيان الصادر عن مكتب المرجع الأعلى السيد علي السيستاني، موجهًا إلى الخطباء والمبلّغين في محرم 1438 هـ، إلى:
(تحرّي الدقة في ذكر الآيات القرآنية، أو نقل الروايات الشريفة من الكتب المعتبرة، أو حكاية القصص التاريخية الثابتة، حيث إنّ عدم التدقيق في مصادر الروايات، أو القصص المطروحة يفقد الثقة بمكانة المنبر الحسيني في أذهان المستمعين).
و(أن يترفّع المنبر عن الاستعانة بالأحلام وبالقصص الخيالية، التي تسيء إلى سمعة المنبر الحسيني، وتظهره أنه وسيلة إعلامية هزيلة، لا تنسجم ولا تتناسب مع المستوى الذهني والثقافي للمستمعين).
انطلاقاً من هذه المبررات والدوافع بذل بعض العلماء المعاصرين جهودًا في قراءة السيرة الحسينية، وسجّلوا ملاحظات على ما هو متداول منها، وسعوا في مجال التحقيق والتنقيح، ونذكر هنا بعض الإسهامات:
1. السيد عبد الرزاق المقرّم (1316 - 1391 هـ) (1894 - 1971 م)
وهو عالم فقيه محقّق، كان محلّ ثقة واعتماد في الحوزة العلمية في النجف، تربّى عند كبار العلماء، كالسيد أبو الحسن الأصفهاني، والميرزا الشيخ محمد حسين النائيني، والشيخ ضياء العراقي، والشيخ حسين الحلي والسيد محسن الحكيم والسيد أبو القاسم الخوئي، وكتب تقريرات فقه السيد أبو الحسن الأصفهاني، وتقريرات من بحث الشيخ الميرزا النائيني.
ألف كتابًا بعنوان (مقتل الحسين)، حاول في هذا الكتاب أن يحقّق في عدد من الروايات، فنفى بعضها، وأثبت البعض الآخر، وقدّم ملاحظات على المقاتل الموجودة، وناقش بعض القصص المتداولة عند الناس، التي ترسل إرسال المسلمات، فناقشها ورفضها، كما ناقش كثيرًا من النقولات الضعيفة وغير المناسبة، سواء من داخل دائرة أتباع أهل البيت أو من المناوئين لهم.
جاء في مقدمة الكتاب بقلم السيد محمد حسن المقرّم: (حفل كتاب المقتل بالإشارة إلى الكثير من المنقولات التي لا تنهض على أساس، وبالمقارنة وبالفحص أبطل تلك التي راحت تنقلها الأفواه أزمانًا وأزمانًا).
2. الشيخ محمد مهدي شمس الدين (1936- 2001 م)
له مشروع متكامل في دراسة الثورة الحسينية وضع خطته لتأليف خمسة كتب، صدر منها ثلاثة وهي:
1. ثورة الحسين ظروفها الاجتماعية وآثارها الإنسانية. (سنة التأليف 1385 هـ) وتوالت طبعاته.
2. أنصار الحسين: الرجال والدلالات. طبع سنة 1975 م.
3. ثورة الحسين في الوجدان الشعبي. طبع سنة 1400 ه/ 1980 م.
وكان ضمن مشروعه أن يكتب حول (قصة الثورة) وحول (انعكاسات الثورة في الثورات التي تلتها). ولعلّ الأجل حال بينه وبين إنجازهما.
وقد أراد الشيخ شمس الدين بمشروعه المتكامل تقديم دراسة تاريخية منهجية عن حركة الإمام الحسين ، تخرجها عن الانحصار في إطار السرد القصصي المأساوي المتداول، يقول في مقدّمة كتابه: (ثورة الحسين ظروفها الاجتماعيّة وآثارها الإنسانيّة): (وقد بلغ من قوّة تأثير الجانب القصصي المأساوي من هذه الثورة، بما له من دلالات مثيرة، أنّه فرض نفسه على معظم مَنْ كتب عنها إن لم يكن كلّهم فقصروا دراساتهم على هذا الجانب دون غيره.
ولكنّ الجانب القصصي - على ما له من مزايا تربوية وتوجيهية - ليس كلّ ثورة الحسين ؛ فإنّ أحداث هذه الثورة، وكلّ ثورة، ليست معلّقة في الفراغ، وإنّما هي الجزاء الظاهر من عملية تأريخيّة واسعة النطاق. فلكلّ ثورة جذور في نظام ومؤسسات المجتمع الذي اندلعت فيه، ولكلّ ثورة ظروف سياسية واجتماعية معينة، ولكلّ ثورة - وإن كانت فاشلة عسكريًّا - آثار ونتائج.
ولا يمكن أن تُفهم الثورة على وجهها ما لم تُدرس من جميع جوانبها: مقدّماتها ونتائجها.
وهو ما هدفت إليه في هذا الكتاب).
3. الشيخ مرتضى المطهّري (1919- 1979 م)
وهو فقيه مفكّر بارز في الساحة العلمية في إيران، تناول الثورة الحسينية في سلسلة محاضرات دوّنت تحت عنوان (الملحمة الحسينية)، طبعت في ثلاثة أجزاء، وقد تحدّث في القسم الأول من تلك المحاضرات عن التحريف في مرويات واقعة كربلاء، وخطأ بعض التحليلات والتفسيرات لأحداثها، ولزوم مواجهة هذا التحريف.
وسلّط الضوء في محاضرات أخرى على الجوانب والأبعاد المختلفة للنهضة الحسينية، بمنهج تحقيقي ورؤية ناقدة، تمثل اجتهاده ووجهة نظره. كما ناقش عددًا من نظريات معاصريه من العلماء والمثقفين الإيرانيين في ذات الموضوع.
وتجربة الشيخ المطهّري تشكل أنموذجًا رائدًا في التناول والمعالجة، بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معه في بعض الآراء والمواقف، لكنّ الاهتمام بالبحث والتحقيق، والجرأة على طرح الرأي والموقف، ومناقشة الرأي الآخر ومحاورته، كلّ ذلك يصب في خدمة الحقيقة، ويثري المعرفة.
4. الشيخ محمدي الريشهري (1946 - 2022 م)
وهو من علماء الحوزة العلمية في قم، تسنّم مواقع سياسية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وأنشأ مؤسسة بحثية باسم (مؤسسة دار الحديث العلمية الثقافية)، يعمل فيها تحت إشرافه عدد من العلماء والباحثين الفضلاء، وقد أصدر عام 1431 هـ (موسوعة الإمام الحسين في الكتاب والسنة والتاريخ) طبعت في (14) مجلدًا.
وكما جاء في مدخل الموسوعة أنّها (حصيلة جهود دامت عشر سنوات بذلتها أنا ومجموعة من الباحثين، والتي تدور حول محور الإمام الحسين ، ونتاج التتبّع في أكثر من خمسمئة مصدر تاريخي وحديثي وفقهي وتفسيري وكلامي، جمعت ما يمكن العثور عليه حول حياة الإمام الحسين الفرديّة والاجتماعيّة، وأقوال وآراء الآخرين ووجهات نظرهم حوله، وها هي الآن بين أيدي الباحثين بعد تحليل مباحثها وتنسيقها بشكلٍ منطقي).
وفي مقدّمة الموسوعة بحث حول مصادر الروايات عن السيرة الحسينية، حيث جرى تصنيفها إلى أربع مجموعات:
الأولى: المصادر الصالحة للاعتماد.
الثانية: المصادر غير الصالحة للاعتماد.
الثالثة: المصادر المعاصرة.
الرابعة: المصادر المفقودة.
مع تقويم معظم هذه المصادر، وتبيين مبررات الاعتماد أو عدم الاعتماد على مروياتها.
وامتازت موضوعات الموسوعة باشتمالها على عرض وجهات النظر المختلفة حول كثير من أحداث السيرة الحسينية، والمقارنة والترجيح فيما بينها، عن طريق البرهنة والاستدلال.
وتكثفت فيها موارد النقد لبعض المرويات المتداولة على ألسن كثير من الخطباء، مما ليس له مصدر، أو يكون منقولًا من مصادر غير معتبرة.
وصدر ملخص لهذه الموسوعة التحقيقية في مجلد واحد، بعنوان (الصحيح من مقتل سيّد الشهداء وأصحابه).
مع إقرار حقّ الاجتهاد، فإنّ الباحث قد يصل إلى قناعة أخرى، ولأنّ القضايا النظرية ظنية وليست قطعية، فقد يكون الرأي الآخر هو الصحيح، وقد يكون خطأً، فلا بُدّ من فسح المجال لعرضه ومناقشته، كما هو قائم لحدٍّ ما في مجالي الفقه والأصول، لكنه لا يزال عسيرًا وصعبًا في المجال العقدي والتاريخي.
في سنة 1970 م/ 1390 هـ ألّف الشيخ نعمة الله صالحي نجف آبادي، من علماء إيران (ت 1427 هـ) كتابًا بعنوان (الشهيد الخالد)، وهو فقيه وأستاذ في الحوزة العلمية في قم.
قدّم الشيخ صالحي في كتابه نظرية حول هدف الإمام الحسين من نهضته، وأنّ هذا الهدف يتمثل في إقامة حكم إسلامي عادل، يحرّر المسلمين من سلطة يزيد.
وهذه النظرية تخالف النظرية السائدة، التي تقول إنّ الحسين إنّما ثار لكي يستشهد، عالمًا بنهايته ونهاية أهل بيته، ممتثلًا للأوامر الإلهية، كي يصل بذلك إلى الثواب العظيم.
وقد سعى لنقد هذه النظرية، ورأى أنّ إبلاغ الرسول ﷺ باستشهاد الحسين على نحو الإجمال، وليس التفصيل من حيث الوقت والزمان، مستشهدًا بآراء علماء شيعة يقبلون هذه الفكرة في علم الإمام، كالشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي.
ويستشهد بخطب وكلام للإمام الحسين، يقرّر فيها أنه أولى بالأمر من بني أمية، ويأتي في هذا السياق قبوله للبيعة عبر سفيره للكوفة مسلم بن عقيل، وأنه قصد الوصول للكوفة، لكنّه حينما تغيّر الوضع السياسي في الكوفة، طرح خيار العودة من حيث أتى، وعندما لم يستجيبوا له، وقرّروا إلقاء القبض عليه، قاتلهم ليستشهد حتى لا يقع أسيرًا ذليلًا بأيديهم، فالشهادة لم تكن هي المقصد في الأساس. لكن هناك من رأى في هذه النظرية مخالفة واضحة لكثير من النصوص والروايات الواردة، وأنّها تعني عدم علم الإمام الغيبي عن مصيره ونتائج حركته.
وقد قدّم للكتاب وقرّضه الشيخ حسين علي المنتظري، والشيخ علي المشكيني، ويقال إنّ الشيخ المشكيني سحب تأييده للكتاب فيما بعد استجابة للضغوط القوية.
وكان الجدل والردّ أمرًا طبيعيًّا تقتضيه الحالة العلمية، لكنّ المسألة أخذت بعدًا آخر، باتهام مقصد المؤلف ونيّته، وتقرير أنّ ما طرحه يوجب التشكيك في علم الإمام، وتضعيف مكانة القضية الحسينية في نفوس الجمهور الشيعي، وأنه لا ينبغي السكوت على مثل هذه الأفكار، بل تجب المواجهة ومنع طرحها وانتشارها، وقد أدت التعبئة إلى ظهور موجات من الغليان في المحافل الدينية والعلمائية والشعبية في إيران، واتّهم المؤلف بأنه معتقد بأفكار النواصب، ومناهض للتشيّع، وبلغ عدد الكتب التي صدرت في الرد عليه حوالي عشرين كتابًا ورسالة، وأفتى بعض المراجع بأنّ كتاب (الشهيد الخالد) من كتب الضلال، ومنعوا مطالعته، وبعض المراجع رفض الإفتاء حول الموضوع، ورأى أنّ التصعيد في المسألة مضرٌّ وغير صحيح، لكنّ المؤلف انبرى للدفاع عن نظرياته وأفكاره وألّف كتاب (عصى موسى)، وامتدّت القضية إلى سائر المحافظات الإيرانية، حتى وصل الأمر إلى لبس الأكفان استعدادًا للموت ضدّ الكتاب ومؤلفه!!
ورأى بعض الباحثين أنّ للسّافاك (جهاز المخابرات للسلطة الشاهنشاهية آنذاك) يدًا في نشر (عشرين ألف نسخة) من الكتاب، ونشر الردود عليه إشغالًا للجمهور وإرباكًا للساحة، وأنّ هناك وثائق تدلّ على ذلك.
وقد كتب الباحث الشيخ رضا استادي تقريرًا عن الكتاب وأحداثه في (608) صفحة.
هذه القضية أنموذج لمثيلات لها حصلت في مجتمعات شيعية مختلفة، وهي تضعنا أمام تساؤل عريض:
هل نقرّر إقفال باب الاجتهاد وعدم البحث في قضايا تاريخنا الإسلامي، ونصادر حرية الرأي؟
إنّ ذلك يخالف منطق الدين والعقل، ويسلب مدرسة أهل البيت أهم ميزة علمية، ولكن هل نترك الساحة نهبًا للآراء الخاطئة والمغرضة؟
الجواب:
كلّا، بل يجب فتح باب البحث خاصة في هذا العصر، ولسنا مخيّرين في ذلك، فقد انتزع الناس حريتهم في التعبير عن آرائهم، وتوفرت الوسائل بين أيديهم.
والمطلوب هو: المبادرة إلى البحث والتقويم والنقد الذاتي، والمواجهة الفكرية العلمية بين الآراء والنظريات بعيدًا عن التهريج والتشهير واتّهام النيات والتشكيك في الدوافع.