رمزية الأحداث وصراع المفاهيم عبر التاريخ الإنساني
يبدو أن هناك قوى شريرة عابرة للتاريخ والأمم تحاول جاهدة للمماحكة وإسقاط الفطرة السوية عند بني البشر وإخذال الصالحين وإبراز الفجار. منذ أن انبرى الشيطان اللعين في تأويل الأمور بالطريقة التي تماشي هواه وحبه للعلو، انحرف واستخف بأوامر الله جل جلاله، وآلت تلكم الأمور إلى طرده من قائمة الصالحين. وإلى يومنا هذا، وإبليس لعنه الله يغوي ويغري أكبر عدد من الناس والجن ليكونوا في معسكره ﴿قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [ص: آية 82]. وقد نجح الشيطان في إغواء عناصر عدة عبر الأزمان أدت إلى حرمان الأقوام السابقة في الاستمرار في النِعم والنعيم. حتى بلغ الحد عند بعض أولئك الأقوام أن يتهكموا على رسول الله موسى بقولهم الموثق في القرآن الكريم ﴿قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: آية 70]. وحاليا أسرف بعض المنحرفين المترفين في توظيف مفهوم ”الحرية“ في بعض الدول الديمقراطية النافذة للحد الذي أباحوا به لأنفسهم انتهاك الفطرة وتمجيد الشذوذ وإلزام الأمم بالأخذ به وتهميش من ينكر ذلك!! كل ذلك تم ويتم تحت مفهوم ”الحرية!“.
في حواضرنا الإسلامية نرى بأن ظاهرة جفاف مشاعر بعض أبناء الجيل الصاعد المتأثر بالأفكار المستوردة عبر تطبيقات السوشل ميديا آخذة بالتمدد والتأثير عليهم/ عليهن. فأضحى بعض المراهقين / المراهقات في بعض الحواضر الإسلامية يعزفون ويزهدون ويعرضون عن أي شي يتعلق بالإسلام الاجتماعي والجمعي. وفي ذات الوقت يبتهجون ويتابعون بشغف كل الأنشطة الجماعية لدى بعض الأمم المترفة المنحرفة من احتفالات صاخبة وحفلات جماعية ماجنة وأنشطة اجتماعية تافهة وعروض ملابس منحلة ومهرجان سينمائية غير جادة وترندات سلوكية سوقية.
البعض من الأطفال والمراهقين من أبناء مجتمعاتنا يظهر منهم عزوف متقطع بين الحين والحين الآخر بالامتناع عن المشاركة في صلاة الجمعة وصلاة الجماعة والتغييب العمدي عن حضور مجالس الوعظ وخطب الجمعة والندوات العلمية واكتفائهم بالصلاة في المنازل حتى في عطلة نهاية الأسبوع. وفي مجال المحاضرات التربوية يعلنون اكتفاءهم بالاستماع إلى المحاضرات التربوية والإرشادية في اليوتيوب والبودكاست أو هكذا يبررون لأنفسهم أمام آبائهم وأمهاتهم عن سبب عزوفهم عن حضور المجالس ودور العبادة كأن يقول أحدهم أن لديه رهاب من الجموع أو التزامات أخرى متعددة للتهرب.
في الواقع قد يتطور العزوف المتقطع إلى إعراض تام في مرحلة ما إن لم يُعالج بالبصيرة والحكمة والرصانة والديبلوماسية بأقرب وقت وقبل استفحاله. هذه الظاهرة أي ظاهرة العزوف المتقطع فعليا تعزز لفكرة إطلاق دراسة ترصد منشأ العزوف المتقطع لدى بعض المراهقين والأطفال عن الأنشطة الاجتماعية في حقول العبادات والإرشاد قبل الاستفحال وانتخاب طرق المعالجة الفعالة مبكرا.
من وجهة نظري الشخصية، إن العزوف المتقطع عن المشاركة أو الحضور لأي فعالية تربوية وأخلاقية إسلامية لا يخلو من أحد الأسباب / الوجوه التالية:
سبب قهري - سبب عرضي - سبب مستفحل.
1 - السبب القهري: قد يكون السبب خارجياً مثل سوء أداء المحاضر أو سوء نظافة وسعة المكان وتهويته أو قساوة وجلافة بعض كوادر المكان أو فرض من جهة تنفيذية يمنع انعقاد المجلس / الصلاة / الاحتفال / النشاط التربوي. وقد يكون السبب غلظة الأب / غلظة الأم في إجبار أبنائهم بطرق عنيفة عند جلب أبنائهم للمجالس والجوامع وأماكن الاحتفالات الدينية والأنشطة التربوية وحتى العلمية.
2 - سبب عرضي: حالة مزاج متقلبة لدى الفتى المراهق أو الفتاة المراهقة؛ بسبب وجود أصدقاء سوء يحرضونه على الامتناع عن المشاركة أو تعارض الوقت لانعقاد المناسبة مع فترة اختبارات دراسية أو سفر أو مرض طارئ أو تعلق المراهقين بأجهزة الحاسب والألعاب الإلكترونية أو ولوجه في عالم النت الأسود Black web.
3 - سبب مستفحل: نمو ميكروب الكفر والإلحاد والتشكيك وسوء الظن بشكل طاغ في قلب المراهق؛ بسبب اندماجه بمتابعة برامج إعلامية عبر العالم الرقمي/ قنوات فضائية سرا. تغذي تلكم البرامج أفكار معينة مثل: كسر النواميس الأخلاقية / الترويج للشذوذ / الترويج للمخدرات/ الترويج لتنوع الجندر / العنف / الرذيلة / الإجرام / التنمر وغرس كل خصال سيئة قد تؤدي إلى زرع الكفر والضلال والانحلال والفجور والفسق والانحلال. وفي غمرة غفلة الوالدين والإخوان الكبار وأبناء المجتمع لأي سبب يتفاجؤون لاحقا بأن أحد أفراد أسرتهم أو أقاربهم أو أبناء مجتمعهم قد التحق / التحقت بمجتمع الميم أو مجتمع الإلحاد أو مجتمع الانحلال. أو عصابات الترويج للمنكر والمخدرات. وهناك أشخاص أماطوا اللثام عن وجوههم وهويتهم الفكرية الشاذة / الإلحادية، وشهروا بأنفسهم عبر بعض تطبيقات السوشل ميديا / قنوات فضائية بعد أن استقلوا ماديا، وبعدوا عن مجتمعاتهم جغرافيا.
هنا نتساءل عن مواقع الحلول وأدوار كل منها، ونورد بشكل مختصر:
مواقع الحلول:
1 - المنزل «الأبوين»
2 - دور العبادة «الإمام/ الخطيب»
3 - مراكز الدراسات الاجتماعية والاستشارات الأسرية «الاستشاري»
4 - المجتمع «الحاضنة الاجتماعية».
ا - دور الأبوين:
المراقبة الفطنة للأبناء وملاحظة السلوك تعطي الوالدين قراءة العلامات السلوكية الحيوية لاستيضاح قناعات وأفكار أبنائهم وتحديد وقت التدخل بكل قوة ووقت المشورة أو الإشادة. ويبادر الآباء والأمهات بالجلوس بشكل منظم ودوري مع أبنائهم للنقاش الهادئ والهادف لإيجاد حلول لكل جزئية أو شبهة أو غموض أو صعوبات تعترض طريق الأبناء أولاً بأول. وتكون الجلسات بشكل مستمر في أجواء تملؤها الثقة والحب والطمأنينة. ولا يكون معيار التفوق الدراسي / النمو المالي هو المعيار الأول والأخير لقراءة سلوك الأبناء من قبل الآباء. ولا بد من تفعيل قوانين البيت داخل البيت على جميع أفراد البيت، وإن اضطر الأبوان فصل مودم الإنترنت ليلا وتحديد الأوقات المتاحة للولوج للنت من قبل أفراد الأسرة وتفعيل خاصية الحماية في المتصفح.
ب - دُور العبادة:
الشيخ الذكي / الخطيب الفطن مُلتفت لتحدث بما يلائم كل طبقات الحضور في دار العبادة. وفور دراسة ديمغرافية الحضور يعالج تلقائيا أداءه نوع وسمة الخطاب والتوجيه أول باول لإشباع النهم المعرفي والإيماني ورد الشبهات المعاصرة ومعالجة الاستفسارت العصرية لدى كل شريحة اجتماعية وبالخصوص ما لدى المراهقين/ المراهقات. وقد يكون واجباً على الوالدين انتخاب الخطيب المناسب إلقاؤه لما يدور في أذهان أبنائهم من تساؤلات عقائدية أو سلوكية أو حضارية أو أخلاقية قبل الذهاب بالمراهقين إلى تلكم المنتديات والمجالس.
ج - مراكز الدراسات الاجتماعية «الاستشارات الأسرية»:
المبادرة من قبل أهل التخصص بطرح دراسات وعقد تجارب اجتماعية وإطلاق استفتاءات ميدانية لتلافي أي معضلة تعطل حركة الاحتواء بالجيل الصاعد وضمان نسب النمو والرقي والتألق بين أجيال الشباب. ومن الذكاء دراسة قصص الإخفاق لدى بعض أبناء المجتمع بموضوعية ومهنية تامة والسعي الدؤوب إلى تلاشي منحنيات الإخفاق وخلق نماذج ناجحة.
في بعض الحواضر الإسلامية، في أيام عشر محرم الحرام الأولى تنطلق فعاليات إحياء ذكرى يوم التضحية والعزة والكرامة الإنسانية وهو يوم عاشوراء حيث استشهاد سيد شباب أهل الجنة. والواقع أن رمزية يوم عاشوراء هي رمزية الانتصار لمبادئ الحق ضد مفاهيم الركون لزخارف الدنيا من خلال ذروة التضحية بالنفس والنفيس ودرء الفتن وفضح الظلم وحفظ حرية وكرامة الإنسان. وقد لا يحيي تلكم المناسبة البعض من أبناء الحواضر الإسلامية، لأسباب مختلفة. وهناك أيام شهر رمضان المبارك حيث تربية النفس وتهذيبها وصقل الإرادة وتعميق مفاهيم العطف على الفقراء ومواساة الناس والزهد بالأكل ورفع منسوب التقوى من أجل رضا الله. وهناك أيام الأضحى المبارك حيث تعميق مفهوم التضحية والتجرد من شهوات الدنيا لبلوغ رضا الله والسعي نحوه.
مع تقدم العلوم والتكنولوجيا والصناعة، إلا أنه أضحى عدد الأزمات التي يختلقها الإنسان الظالم والجشع ضد أخيه الإنسان المظلوم والمستضعف في تصاعد مستمر في كل الميادين الحياة والتجارة والصناعة والزراعة والصحة. حتى وصلت بشاعة الجشع لدى البعض لجمع أكبر قدر من المال إلى تحطيم منظومة الأسرة وإضعاف الموارد المالية وتضخم الأسعار للسلع الأساسية وتشريع زواج الشواذ وتبرير تعدي الرجال الشواذ على الأطفال وتجاوز الظلم حدود العقل وتجارة البشر بالبشر «اطلع على فيلم Sound of freedom». فأضحى على كل إنسان شريف ومجد ومخلص لإنسانيته وأسرته ودينه ووطنه وكرامته يتحتم عليه استحضار شعار ومفهوم: ”كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء“ لمجالدة الواقع إن كان في مجتمع مُقر بقبول الانحراف ولصيانة الإنسانية وحفظ الكرامة قولا وعملا.
ختاما، قال تعالى ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: آية 6]. فلا تنطلي على كل إنسان فطن شعارات الشيطان وجنده ودلالات التوظيف المنحرف للمفاهيم التي سعى ويسعى هو وجنوده في تسويقها تحت إيماءات براقة وشعارات جوفاء. فأهل الضمير الحي من كل الأعراق يعلمون أن الفُساق يروجون الوهم للناس، وأن الصادقين من أهل الهداية ضحوا ويُضحون من أجل إيصال كلمة الحق والحقيقة للناس.