في رحاب دعاء الإمام الحسين (ع) في صبيحة عاشوراء «6»
يا أيتها النفس المطمئنة:
لا ينفك الحديث عن هذا الدعاء المبارك للإمام الحسين عن بيان جانب من شخصية الإمام وهو الجانب الروحي، فمن يتتبع مواقفه وكلماته وهي تتم بخطى ثابتة تكشف عن استبطانه لقوة نفسية تتميز بالهدوء والحكمة في وسط ذلك الظرف الصعب جدا الذي يمر به والمصائب تحف به من كل اتجاه، وكذلك هم من حوله فقد تنزهوا عن الحيرة والشك والتردد في قراراتهم بل ساروا صفا واحدا يحملون روح التسليم والطاعة للإمام مع كون الظروف المادية لا تسير باتجاههم، كيف وهم يرون قلة عددهم والكثرة المتكاثرة في عدد أعدائهم بما يجعل المعادلة عسكريا غير متكافئة، هناك أمر لابد من استجلائه والوقوف عليه حتى نفهم هذه القوة في وجه الصعاب بينما غيرهم ينهار وتضعف قواه أمام ظرف أسهل وأهون من ذلك.
إنه الثقة بتدبير الله تعالى والرضا التام بمجريات الأمور بعد استيثاقهم ويقينهم بأنهم يسيرون تحت راية الحق وأهله، فلا يبالون بالنتائج المترتبة بقدر اهتمامهم بالقيام بالتكليف الشرعي والمشاركة في النهضة الحسينية الإصلاحية، يقف العبد بين يدي القدرة الإلهية وهو لا يرى لنفسه حولا ولا قوة إلا بإذن الله تعالى وتوفيقه، فمهما كان تخطيطه والأدوات والإمكانيات بين يديه فهو لا يراها نافعة ولا فاعلة إلا أن تكون جارية وفق التخطيط الإلهي، فالفرج وانجلاء الكرب قد يكون في مخيلتنا أحدنا يجري بالاتجاه الذي يفكر فيه ويسعى إليه، ولكن الإرادة والحكمة الإلهية تجريه باتجاه آخر غير متوقع وغير معروف الخطى ولكنه في النهاية ينبلج منه نور اليسر، ففي قصة نبي الله يوسف سارت الأمور كما بينتها الآيات القرآنية باتجاهات مفاجئة حتى أوصلت الطفل الذي رمي في البئر إلى حكم مصر والخضوع له والإيمان بدعواه التوحيدية من قبل الكثير، وكذلك في قصة نبي الله يونس بعد أن غضب لله تعالى من إصرار قومه على الكفر بآيات الله تعالى، فألقوه في البحر والتهمه الحوت وتدور أحداث القصة إلى أن رجع إلى قومه مرة أخرى فآمنوا به، وهذا ما نراه جليا في واقعة الطف التي خطط لها أن تكون نهاية الإمام الحسين ودعوته ونهضته وذكره، وإذا بها تكون بداية الفتح الحسيني وتكون النداء الخالد مدى الزمان الداعي إلى الكرامة ورفع الهام بوجه الطغيان.
هذه القوة الإيمانية والروحية عند الإمام الحسين والتي كانت العامل في هدوئه النفسي وثباته وشجاعة مواقفه وبلاغته المتمثلة بخطبتيه في يوم عاشوراء وغيرهما من حكمه، يعبر عنها الإمام الصادق في بيان معنى النفس المطمئنة في سورة الفجر المباركة بأنها نفس الإمام الحسين ، والتي اطمأنت بوعد ربها ووثقت بتدبيره لشئونها في كل الأحوال، فسير نفسه وفكره وعواطفه ومسعاه وفق الإرادة الإلهية مهما كانت صعوبة المحطة التي رضيها سبحانه له، وفي كل أحواله من السراء والضراء لا يرى نفسه شيئا وإنما يعد لمصائب الزمان وشدائده طمأنينته وثقته بالله تعالى، فنصب عينه في هذه الدنيا الفانية هي أن يعمرها بما يرضي الله تعالى وما استخلفه عليه في هذه المعمورة، فالرحيل منها حتم ولكن ما هو المهم هو أن يبذل عمره الشريف في مرضاة الله تعالى في كل لحظاته، ففي أوقات الخير والنعم الوفيرة لا يختال ولا يطغى بسبب حالة نشوة الاقتدار، ولا في حالة الضر والشدة يقنط وينهار ويندب حظه ويشعر بالخيبة، بل كله تسليم بقضاء الله تعالى أينما كان اتجاهه ولا ينصرف عن العبودية الخالصة لله تعالى في كل أوقاته، فلذة المناجاة والشعور بالمنة الإلهية بالوقوف بين يديه سبحانه في محراب الصلاة لا تعدلها أي لذة من لذائذ النعم المادية، وقلبه بوصلته العشق الإلهي فلا يمكن لأي ظرف مهما بلغت قسوته أن يصرفه عن مناه ورغبته ورضاه بقضاء الله تعالى، كما أنه واثق من الوعد الإلهي له بالنصر المعنوي باستحقاق وسام الشهادة والتضحية في سبيل الله تعالى، فيكون بابا من أبواب الهداية وسفينة للنجاة لمن يلتحق بنهجه وهديه وسيرته وأهدافه التي عمل من أجلها، وأما في الآخرة فله مقام كريم وراية كبرى، فقد ذكر أبو علي السلمي البيهقي في تاريخه: أن النبي ﷺ قال للحسين بن علي : إن لك في الجنة درجة لا تنالها إلا بالشهادة، قال السلمي: فكان يعلم وقت اجتماع العسكر عليه أنه مقتول، فصبر ولم يجزع حتى نال الشهادة » «ذخائر العقبى ص 148».