في رحاب دعاء الإمام الحسين (ع) في صبيحة عاشوراء «5»
صناعة الشخصية:
لقد كان الإمام الحسين قامة إيمانية ونموذجا يحتذى به في الانقطاع إلى الله تعالى والثقة بتدبيره وتسييره للأمور وفق الحكمة أينما دارت، الأحداث في ظاهرها قد يكون الألم والبؤس وسطوة الزمن ولكنها تستبطن أسرارا ومسارات تخضع للتخطيط الإلهي، والذي لا نعلم كيفية جريانه ولا الأسباب الآخذة به، ومن ذلك واقعة الطف الخالدة والتي كانت بالمعيار المادي معركة غير متكافئة وانتهت بشهادة الإمام الحسين وهكذا ختمت آخر فصول هذا الحدث بحسب الظاهر، ولكن الله سبحانه وتعالى جعل لها مسارا آخر فكانت الطف هي البداية واستمرت فصولها بامتداد الوجود الإنساني تتوهج وتتفاعل معها النفوس، حتى أخذت موضع القضية الرئيسية التي لا يمكن العبور على صفحاتها مرور المرام ودون اكتراث، بل أصبحت رمزا ومعلما مهما لمعرفة عظمة ورفعة شأن ثلة آمنت بالله تعالى وسطرت الملاحم البطولية بقوة إيمانها قبل شجاعتها، فحازت الإكبار والإعظام عند العقول المنصفة لما كانوا عليه من خلق رفيع وقيم إنسانية نبيلة، ولا يمكننا أن نقرأ بلا اكتراث موقف الثبات والتفاني والبطولة عند أصحاب الإمام الحسين وصولا إلى مرحلة غير مسبوقة وهي اللا مبالاة بالموت المخيف، السر كان في الروح الإيمانية عندهم والتي يكشفها الإمام الحسين في دعائه، فالثبات في وسط تلك العاصفة الهوجاء دون أن يتسلل لهم الخوف أو الضعف هو اتصالهم بالله تعالى ويقينهم بتدبيره.
اللجوء إلى الله تعالى في الشدات لا يعني الانكفاء على النفس والانسحاب من ساحة مواجهة التحديات والصعاب، بل هو استمداد القوة من الله تعالى المصرف للأمور وشحن المخزون الإيماني والروحي والنفسي، ومن ثم الدخول في ساحة المواجهة بكل قوة واقتدار واتزان فكري ووجداني، إذ أن التعامل مع المشاكل ومصادر الهموم يحتاج إلى عقلية تتصف بالحكمة والبصيرة والنظر في عواقب الأمور والهدوء في التعامل، وإلا فإن البعض يقع رهينة لحالة الانفعال الشديد والصدمة العاطفية ومع ذلك يطلب المخرج والخلاص من أزمته، أو يقوم باتخاذ القرارات والخطوات المتهورة وغير المدروسة وهو في تلك الحالة السيئة، مما يعني أنه يقع في مأزق ومطب جديد مما يزيد في تعقيد وتضخم الأزمة، فبدلا من البحث عن حلول لها ها هو يقع في متاهة أخرى تزيد من أعباء همومه وحيرته، ولكن الإمام الحسين يضعنا على سكة الحلول والمخارج لمشاكلنا من خلال البحث عن هدوء النفس وصفاء الذهن، ولن يجد المرء المهموم ملاذا آمنا ومصدر اطمئنان له كاللجوء إلى بث همومه بين يدي من يستمع له في كل وقت ولا يصد عنه في أي حال من الأحوال، فيستفرغ من نفسه كل طاقة سلبية تكبل قواه عن الحركة نحو هدفه أو تشوش على فكره، ومن ثم يبدأ في التفكير في أبعاد وعوامل ما يمر به من مشكلة والبحث عن طرق معالجتها والخروج من عنق الزجاجة بأقل الخسائر، هكذا يعلمنا الإمام الحسين درسا مهما في التعامل مع جانب كبير في حياتنا، حيث لا نخلو حياتنا من أزمات تتعلق بالجانب الحياتي والتعامل مع الآخرين «اجتماعي» أو مالي أو عاطفي يكدر عيشتنا ويورثنا الهم، وهذه المرحلة من الترنح العاطفي والنفسي تعد منعطفا خطيرا لما تحمله من نتائج كارثية على الإنسان حينئذ، حيث أنه في ظل تلك الضبابية في فكره والشلل في حركته يمكن أن يتخذ قرارات خطيرة وغير مدروسة تؤدي إلى تخليه عن إكمال مسيرته وتحقيق أهدافه.
الإمام الحسين يطرح مبدأ القوة والاتزان والثبات في مواجهة الصعاب والتحديات، بما لا يتعلق بالجانب المادي كالمال والجاه وكثرة الأعوان فهي لا تغني ولا تسمن من جوع، إن كان الفرد خاويا وفارغا من القوة قد نخرت فيه الهواجس واضطرابات العقل وسلبته رباطة الجأش، وإنما هي قوة قلبية تحرك الجوارح والطاقات نحو العمل مهما كانت الصعوبات، إنها قوة الإيمان بالله تعالى والثقة واليقين بتصريفه للأمور وفق حكمته وعدله وتسديده.