رثاءٌ في فقدهم!
كلّما قلّبْتُ صفحات العلاقة بين الولد وأبيه
قابلني حدثان تاريخيان مهمان:
الحدث الأول:
جاء في قصّة نبي الله إسماعيل صاحب الروح الخاشعة لأمر الله تعالى وأمر والده عندما قال له نبي الله إبراهيم في كتاب الله تعالى:
﴿يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى﴾ «الصافات: 102»
فأجابه بعيون تهلّلت فرحًا:
﴿يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾
مستأنسا بموته من أجل طاعة والده، فأيّ برّ هذا الذي يرى صاحبه موته سعادة في الامتثال لأمر والده، وتضحيته بنفسه من أجل طاعته.
أما الحدث الثاني:
فقد كان على النقيض تمامًا من سابقه، حيث انشقّ الولد عن طاعة والده وقد أراد له هذا الأخير الخير كلّه، ودعاه ليكون في أحضانه لتهدأ لوعة القلب الهائم بحب الولد فلذة الكبد.
فكان هذا الحوار:
نبي الله نوح ناصحًا:
﴿نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ﴾ «هود: 42,43»
ابن نبي الله نوح وقِيل أنّ اسمه كنعان:
﴿قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ﴾
ومازالت علاقة الابن بوالده من أوثق العلاقات التي تتصل بالقلب والضمير وتنفذ إلى أعماق النفس فلايمكن بترها أو التّخلي عنها فهو أصلك وإليه تنتمي كما أوضح ذلك الإمام زين العابدين في رسالة الحقوق إذ يقول:
: ”وأما حق أبيك فتعلم أنه أصلك، وأنك فرعه، وأنك لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ما يعجبك؛ فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، وأحمد الله واشكره على قدر ذلك“
ويحملُ الوالدان أسمى مراتب الحب نحو أولادهم مالايحمله الأبناء نحوهما وإن أخطأ أحدهما في إظهار ذلك الحب فمن باب حرصهما الشديد وخوفهما عليهم.
بينما يختلف الأبناء في عشق الآباء فالبعض ترسو أشرعة حبّه نحو مرافئ والدته فيصفها بالبهاء والنور المُضيء في حياته مثلها مثل الشمس الحرّة الطليقة في أرجاء الكون، ويذكرني حبّه لوالدته بقول المتنبي:
مَنَ كانَ فوقَ مَحَلِّ الشمسِ «موضِعُهُ»
فلَيْسَ يرفعُهُ شيءٌ ولا يَضَعُ.
والبعض الآخر من الأبناء وخاصّة فئة البنات إذ تعتبر والدها الرجل الأول في حياتها، نراها تلتمس له العذر، وتخشى عليه هبوب الرياح، رجلاها تسابق رجليه عندما يريد شيئًا.
إنْ غاب عن ناظريها بدأت تُحيك خيوط الشوق، وإن حضر هدأتْ لواعج الشوق، مثل عاشق لاعَجه فراقُ حبيبه!
فلاريب في صحّة وصدق ما جاء على لسان العرب قديمًا:
«كلّ فتاة بأبيها مُعجبة»
وليس هناك أجمل من كلمات الرسول الكريم حينما وصف حبّه لابنته السيدة فاطمة فقال:
«بضعة مني يربيني ما يُربيها ويؤذيني ما يؤذيها»
إنّ وجود البنت في حياة والدها شلالٌ من العطف والحنان لأقسى قلوب الرجال. وفي الحديث عن رسول الله ﷺ:
«إنّ الله تبارك وتعالى على الإناث أرأف منه على الذكور، وما من رجل يدخل فرحة على امرأة بينه وبينها حرمة إلا فرّحه الله تعالى يوم القيامة».
لذلك رحيل الآباء فاجعة كبرى في حياة بناتهن، وبما أنّ الفتاة تحمل عاطفة جيّاشة لوالدها فالحزن مضاعف عندها ورسائلها لوالدها لاتتوقف وحبّه سرمديّ حتى لوغاب بين القبور.
حدثتني إحدى الصديقات التي فقدت والدها منذ طفولتها وهي سيدة الآن تقول في حبه:
كلّما تذكرت أحداث وفاته أبكي بشدة وكأنّه غادر للتو، أراه شاخصًا أمامي في كلّ مناسبة سعيدة كانت أم حزينة.
أما صديقتي فاطمة التي مرّ عامٌ على رحيل والدها تنعاه فتقول:
عام مضى على رحيلك يافقيد قلبي، يزداد فيه شوقي لك يومًا بعد يوم.
كثيرًا ماكنتَ تخبرني بشوقك لوالدك، وها أنت أورثتني شوقًا لك لاينقطع ولايخبو.
والدي الحبيب:
أبحثُ عنك في كل مكان، في كلّ غمضة عين، في كلّ لحظة وسنٍ.
اشتاقت روحي لصوتك العذب عندما كنت تناديني: أمي لأنك أسميتني باسم والدتك؛ لأكون أمك بعدها.
قد أتممت عامك الأول وأنت بعيد عن منزلك ولكن لن يكون لك مكان سوى قلبي.
يا أعزّ من سكن قلبي.
وفي ضوء هذه الكلمات أعرفُ أنّني مهما صورتُ مشاعرَ الفتياتِ في حبّ آبائهن فسوف يمتدّ بي الطريق ولن أصلَ لطريق مسدود أبدًا؛ لكنني سوف أُردد ما قاله فرانس كافكا:
«إنّ حزني الوحيد هو أنّني عندما أنهي ما أكتبهُ، أكتشف أنّه مجرد بداية صغيرة لما أريد قوله»