المنبر وضرورة صحة ودقة النقل
هنا إطلالة عام هجري جديد، يبدأ بشهر محرم الذي تشكل بدايته، بداية تأريخ لهجرة المصطفى ﷺ وعاشره شهد حادثة عام 60 لهجرته ص أخذت مساحات واسعة في ثقافة المسلمين وتاريخهم.
مع هلال أول أيام المحرم، يستحضر المسلمون بداية عامهم الهجري وعند استحضارهم لأحداث محرم تبرز واقعة عاشوراء شاخصة بارزة أمام الجميع.
وفي عاشوراء يحتفي المسلمون جميعا، باختلاف مذاهبهم وباختلاف دوافعهم بهذا اليوم الذي له مكانة كبيرة في نفوسهم جميعا. يختلفون في مسببات احتفائهم، لكن عمق اختلافهم هو مدعاة لهم جميعا أن يتفكروا، فلابد وأن شيئاً مفيدا يمكن الخروج به من التأمل المجرد والبعيد عن التمترس خلف الانتماء الذي ينتمي له كل منهم. بعض يحيه تعظميا وتخليدا لأحداث حدثت فيه تعود لما قبل البعثة النبوية الشريفة، وبعض آخر يعظمه تخليدا لمقتل سبط رسول الله. بعضهم يخلده بالصيام، والآخر يخلده بالتفكر في ثورة الإمام الحسين على الظلم، وعلى التعدي على الأموال والأرواح والقيم والأعراض. والقائمة تطول في الاختلاف على بما يشمل الممارسات التي يتبعها كل فريق في كيفية احتفائه.
الافتراق المتمثل في تهميش ما يراه الآخر مهما، والتأكيد على ما يراه هو هامشيا، مدعاة للتفكر والتأمل ودعوة لمحاولة الإجابة على التساؤلات المشروعة التي تخدم وحدة ولحمة الجسد الإسلامي والنظر إلى المشتركات بروح المحب للدين وبروح الانفتاح على الآخر وبعقلية أن الإسلام عالمي وأتى لكل البشرية وليس للمسلمين فقط، فضلا عن أن يكون لفريق أو مذهب دون غيره.
فهل يمكن أن يأخذنا الانفتاح على من نختلف معهم، أن نعزز المشتركات ونؤكد على عالمية الإسلام من خلال عاشوراء لنجعل منها، نواة للتعاضد والتلاحم والانطلاق بها إلى مساحات الإنسانية الواسعة، بدل أن تكون الأنظار متجهة لمساحة الاختلاف ويقوم البعض بتعظيم هذه الاختلافات؟
وهل يمكن أن يعمل الجميع على أن يكون المنبر مكانا لإحياء عاشوراء بما تختزنه عاشوراء من معان وقيم وأدبيات واضحة ناصعة لا تحتاج إلى اختلاق غير ما حدث فيها ولا إلى تضخيم أو تهويل. فنقل حدث عاشوراء كما هو فيه من العبر والمعاني والمواقف والأدبيات ما أبقى عاشوراء حية نابضة عبر القرون. فليس مقبولا من الخطيب إلقاء أي مادة غير موثقة على المستمعين وليس مقبولا أن يلتزم المتلقي الصمت عند سماعها، فلا بد أن يناقش الخطيب في ما قال أثناء أو بعد المجلس أو بعد محرم.
وهل يمكن لكل الأعزاء ممن يتصدون للمنبر من الخطباء الأعزاء أن يأخذوا ما يتطلبه استحضار عاشوراء الناصعة الحقيقية للنشء في ظل المتغيرات الثقافية والاجتماعية والعلمية والتقنية التي تشهدها المجتمعات الإسلامية، ليكون طرحهم جاذبا لا منفرا، موضوعيا لا معياريا، يعالج مشاكل ملحة لا يخوض في مواضيع أبعد ما تكون عن احتياجات المجتمع.
وهل يمكن أن يلتزم كل من الخطباء الأعزاء بأن لا يذكر شي على المنبر من آيات القرآن الكريم إلا وهو عارف بمعانيها وأسباب نزولها ولديه ما يسنده في ذلك من دون إلقاء معان أو أسباب نزول بدون دليل معتبر على ذلك وأن يكون موضوعيا في ربطها بالأحداث أو الموضوع الذي يطرحه.
وهل يمكن لكل واحد من الخطباء الكرام أن لا يذكر من الأحاديث إلا ما ثبت سنده حسب الطرق المعتبرة، والابتعاد عن ما يعتبر روايات غير معتبرة إما ضعيفة أو فيها ما يعيبها لا يعترف فيها العلماء المعتبرون ويكون معناها واضح الدلالة وله مصادر يثبت بها ذلك.
وهل يمكن أيضا عدم ذكر أي من الحوادث التاريخية إلا ما تم توثيقه وتعريف المستمعين بمراجع توثيقه لكل ذلك وكذلك الشخصيات التي يتم ذكرها وما ينقل عنها إلا ما يذكر معه ما لها وما عليها وتوثيق ذلك بالدليل دون مبالغات ولا انتقاص.
وهل يمكن لكل مستمع أن يكون حاضر الذهن متابعا لما يلقى عليه، وتكون حاسته النقدية حاضرة على الدوام للتأكد من أن ما ذكر من آيات وأحاديث وحوادث وشخصيات كلها ملتزمة بضوابط الدقة في المعاني والدقة في قبولها حسب المرجعيات المعتبرة. وأن يكون لديه الاستعداد أن يراجع الخطيب فيما سمعه يلقيه بدون دليل واضح على صحته من أجل الاستيضاح وتعميم الفائدة والرقي بالمنبر ليكون مكانا يبعده عن اتهامه بنقل ما لا سند له!!
ومن هذا هل يمكن لنا أن نقتنع بأن أحد المؤشرات على نجاح المنبر والخطيب هو التزامه بعدم ذكر ما ليس عليه دليل. والتزامه ذكر ما يفهمه ويعرفه ولديه دليل عليه. ومعه تأتي المؤشرات الأخرى المتمثلة في اختياره مواضيعه وأهميتها للمجتمع وغزارة اطلاعه فيها وأسلوب طرحه وما يذكره من شواهد لإيضاحها، إضافة لتوفير مادة للمستمعين لمراجعتها للاستزادة من موارد الاستزادة في نفس الموضوع من كتب ومواقع ومحاضرات.
عامكم الجديد موفق لكل خير
ومأجورين مقبلون الأعمال في إحياء عاشوراء