المراهقة.. بين الاعتدال وفكي كماشة.. حَدَثٌ وحَدِيْثٌ ”47“
كَثيرًا مَا تَأسُرنا الروعةَ التفاتةً؛ وتَتملّكُنا الدّهشةَ لَحظةً، ويَأخذُنا الارتياحَ غَلبةً؛ وتَغمُرنا البهجةَ والإكبارَ مِرارً وتَكرارًا، لومِيضِ نَسقِ أطيافِ دَفقِ تلك ”الفلاشات“ الخاطفة، وبريقِ سِربِ أترابِها الحِسَان، مِن بديعِ زَهوِ صَفّ المواقفِ المُرتّبة، التي نَرى في وَضحِ طَلعتها الوضّاءةِ، بمِلءِ أحداقِ أعيننا الشاخصة؛ ونَصيخ استِحسانًا، برشِيقِ آذانِنا المُرهفة؛ ونُدرك استملاحًا، بحاضِر عُقولِنا الواعية، أَعطَر وألطَف فائق تلك التصرّفات الراقِية، وأصفَى وأنظَف أترابها: السلوكيات الحكيمة الرصِينة، وقد أتاها مِن باب مَأتاها النضِر، كمالُ زِي خُلُق الشابّ المُراهِق - الكيّس الفَطِن - مِن مّخزونِ سَلّةِ دَماثةِ الأخلاقٍ الحُبلى، ومَكنونِ حُسنِ المَنطقِ النيِّر، وفائقِ الأَدبِ الجَمِّ، ومُرونةِ خِفّةِ بلسمِ الروح…!
وأَكادُ أجزِم بأنّ تركةَ مِيراثِ مُكتسباتِ رَصيدٍ وَافرٍ سَالكٍ، قد وُلدَ مَعه الشابُّ المُراهق، بعد أنْ تمّ زَرق إكسير مَصله الصافي الشافي… مَرّتين: مرّةٌ قُذِف به، رِقةً وتَحنانًا، في صَميم خّلايَاه البِكر، قَبل وِلادتِه طِفلًا مُدلّلا مَغمَورًا حُبْا؛ ومَحفُوفًا حَنانًا، مِن لدُن سَماحةِ أبوين صَالِحين بَارّين، في طُولِ سِلسِلةِ حَبلهِ السرّي؛ ومَرةٌ أُخرى بَعد أنُ خرجَ وَاثِقًا مُنتصرًا، إلى ”مَرتعِ“ الحياةِ الهانئةِ، وقد أينعَ غرسُه الطيب، واشتدّ نصلُ عُودِه المُخضلِّ يومًا، بعد يومٍ؛ وأنتجَ ثِمارًا يانعةً طيّبةً، تَشتهِي وتَبتغِي بَهي رُؤيتها المليحَة الغَيدَق؛ وتتوقُ شوقًا حَافزًا، إلى سَائغ أُكُلِها، الطيّب المذاق، شهيّةُ نَهَم الساغبِ؛ وتُكِبر طَلعتَها الريّانة، شغفُ ذائقة الشبعان...!
يتّفق عُلماءُ النفس المعاصِرون على أنّ مَرحلةَ المراهقةِ العُمريةِ تبدأ مِن سِنّ «11- 19» سنة… وقد تتوهّم ثُلّةٌ مَن بعضِ عَوامِّ الناس، أنّها مرحلة افتعالِ المشاكل السلوكية؛ وانتهاجِ الحَرَج الاجتماعي، اللّذان يَمتازان بفوراتٍ عَارِمةٍ مِن فرطِ التمرّد الملحُوظ، ونوباتٍ شَاطحةٍ مِن هجمةِ العِصيان الشديد، غَيرَ أنّها - في واقعِ الأمر - مَرحلة عُمرية مُعاشة، لَا بدّ مِن أنْ يشهدَها الفرد، شَاء أم أَبَى، ويَجتازها طَواعيةً، بكاملِ طيّ صَفحتي صَفَائها وعَكَرها المُعاشتَين؛ ليصلَ بعدها الفرد عينُه - لَا مَحالة - مِن الجنسين، إلى مَشارف مرحلةِ البلُوغ؛ لتبدأ مرحلةٌ جَديدةٌ مِن نّشوةِ النضجِ، وسُكونِ الاتّزان، وحُضور ذائقةِ حس الوعي الإجتماعي المرافِقِين...! ويكادُ يجمع علماء النفس، على أنّ دَورا وسط البيئةِ الاجتماعيةِ المنفتّحةِ، والمحيطِ الأسري الحاضِن، لهما تأثير حَيوي نَشط، على نمط التنشئة الاجتماعية للفرد، في خِضمّ مرحلة المراهقة؛ لإحداث نمطٍ نوعيٍ مَطلوبٍ مِن التوازن الانفعالي، والنضج السلوكي، ومِثله الاجتماعي؛ ليرتقِي في أفُقه السامِق شخص المراهق تصاعدًا مَرحليًا، إلى بُلوغ مرحلةٍ مُتّزنةٍ مِن الوعي السائد المُندمج في مُحيط الأسرة؛ ليربطه، برَصانةٍ ورَزانةٍ، بانتهاج سُلوكيات ومواقف مُنتقاة مِن خِيار نُخبة مُثلى مِن أسمَى وأنمَى قَوائم أنبل وأفضل منظومةِ السلوكيات الاجتماعية السائدةِ الرائدةِ في موضعِ حَلبة مُجتمعهِ الخارِجي…!
ولَعلَّ فترةَ امتداد البرمجة النفسية الانتقالِية الشامِلة للطفل اليافع، ومَا تشمله مِن برمجةِ طريقةِ تفكِيرِه؛ لتتشكّل على إثرها أمثل الاتجاهات، وأكملِ الأخلاق، وأرقّ المشاعر، وأنبلِ السلوكيات… ليتمّ إعداده لَاحقًا، إعدادًا شاملًا لمُتغيراتِ استهلالِ مرحلة المراهقة، في كَنفِ أسرته المترابطة؛ ولَاحقًا يكدحُ فردًا مُنتجًا فَاعلًا، في أوساط مُجتمعه الأكبر… ويُعدّ هذا الأمرُ عاملَ أساس، في تَأسيس، وبِناء، وتشكِيل شخصيته القادِمة، وخاصةً في ظِلّ سنوات مرحلة الطفولة المتأخّرة، التي تسبِق دُخوله مرحلة المراهقة الجادة… هَذا ويُقَسِّم ”مرحلة المراهقة“ استشاري الطب النفسي، الأستاذ الدكتور طارق الحبيب إلى ثلاث فترات رئيسة، في التعامل المُباشر مَع والديه: «أولها فترة المُوافقة، وتبدأ مِن سن ”11-14“ وتُعدّ فترةّ نموٍ طبيعيةٍ، يغلِب عليها طبع المُطاوعة؛ ونهج مَظهر البساطة؛ ونَزعة الاستجابات الفورية، بعيدًا عن أساليب العِناد، وبمنأى عن أنماطِ الرفض، وكيلِ استجابات التكلّف الشخصي؛ تلِيها فترةٌ جديدةٌ، تُعرَف ”بالمُعارضَة“ وتبدأ مَن سن ”14-16“ وهي فترةٌ يراهَا العلماءُ النفسانيون طبيعية المَنشأ، بِسلّةِ تصرفاتٍ خاطئةٍ… تحتاج إلى تدخّل حَكيمٍ حَليمٍ مِن لدُن الوالدين؛ لتصحيح مَكامِن الخطأ السلوكي، بمُعارضةٍ ”ناعمةٍ“ يقبلها، ويُقبِل عليها عقلُ المراهق، بيُسرٍ وسُهولةٍ آنيتين؛ واستبدالها بالسلوك السوي المعتدل؛ أما الفترة الثالثة فتبدأ مِن سن ”16-19“ وتعرف بفترةِ التوازن الواعي، وفيها تتشكّل سُلوكيات الأبناء الناضجةٍ المُكتسبةٍ، استعدادًا للانطلاقِ الآمِن، والدخُول الظافِر إلى مُستهلّ مرحلة الرّشد» *…! ومِمّا يُذكر أنّ المراهق لن يصلَ إلى سَقف مرحلة التوازن السلوكي المُعتدل، مَا لَم تُمَهَّد له، ويُعدّ وتعدّل هَنات سُلوكه المَاثلة المُتكرّرة، إعدادًا تَصحِيحِيًا مُوجّهًا وَاعيًا، في فترةِ أوجِ المُعارضةِ المُضطربةِ…!
ولعلّ الأهمَّ الأحوطَ في سِرّ نجاح خُطة الوالدين التربوية المُوجّهة، في الأخذِ الملتزم، بموجةِ التوجيه الأبوي الناعِم، بأيدي وعقولِ أنجالهم، إلى مَراقي جَادةٍ مُيسّرةٍ؛ قُبيل استهلالِ مرحلة الرشد المُمهّدة، هِي سَلاسة ولَباقة أساليب المُوافقة والمُطابقة التربوية الحكيمة، وعدمِ إظهارِ حَبكةِ مَواقفِ التذبذبِ والتناقضِ، قَولًا، وفِعلًا، وأُسلوبًا أمام مَرأى ومَسمع الأنجال...! عندئذٍ يتسنّى لمقامِ طرفَي الوالدين الواعِيين أن يَفخرا ويُجاهرا رَدَحًا، بما أَنجزَاه، وقَدّمَاه تَربيةً ومَسعىً، في حِياضِ التربيةِ الشاملةِ المُثلى لأنجالهم؛ ليكونَ الولدان الصالحان - جَزاهما اللهُ رحمةً وخيرًا - مِثالًا حَيًا شَامخًا، يَقتدي به الأبناء، مِن بعدهم؛ ويَسير على استقامة مِنواله الأُنموذَج الحاضِر الماثِل، صَفوة الأنجالِ البرَرَةِ لَاحقًا، في تربيةِ وتنشئةِ فلذات أكبادِهم، وكَما يُقال على ”ذِمّة“ المثلِ الشعبي المُشاع: «فاقدُ الشيءِ لَا يُعطيه».
هذا، ولَا يَفُوتني غَفلةً ونِسيانًا، في مَوقفِ سِياقِ صَددِ القُدوةِ المُتذبذبةِ في استرجاعِ الموقفِ المُتناقض، الذي نقله أحدُ مُدراء المدارس أصَالةً - رحَمه الله تعالى، وأحسَن مَثواه - في أحد اجتماعاته الدورِية بالمعلمين، داخل المدرسةِ، مَفاده: أنّ نجَله تلميذ في المدرسة الابتدائية، قد نقل إليه، ذاتَ مَرّةٍ، ببراءةٍ جَيّاشةٍ، ومُشافهةٍ مُضطربةٍ، مَشهدًا مُتناقِضًا، عن مُعلمٍ ”مُلتزم“ بمدرستِه… وقد ضبطه ابنه التلميذ مَرّةً، يُدخّن لِفافةِ سِيجارةٍ خِلسةً، في زاويةٍ مُنعزلةٍ مِن فِناء المدرسة، وهُو يَنفثُ الدخَان يَمنةً ويَسرةً، بتَفَكّهٍ ومَرَحٍ؛ بعد أنْ حَذّره وزُملاءه مِرارًا، في صَفّهم الدراسي، عَن أَضرارِ ومَساوئِ التدخين… وأنّه آفةٌ عَصريةٌ فتّاكةٌ مِن صَفّ المُحرّماتِ، وصِنفِ الخبائثِ، إذْ أنّ مِثل هذا التوجيه التربوي المُوجّه المُتناقض، ونمطِ صَيحة ديباجةِ ضبابية التصريح المُتضاربة، مِن لَدُن معلّمٍ مُربٍ، يعدّه التلميذ قُدوةً حَسنةً، قد هزّ بدهشةٍ عَارمةٍ، دَواخِل مَشاعِره؛ ونقضَ بتضاربٍ مَشينٍ، شخصية المعلم المربي الناصِح، أمام تِلميذه… وقد ينقل التلميذُ الشاهدُ العِيانُ نفسُه المشهدَ الصادِم، ببراءةٍ وبساطةٍ لأَترابه؛ لتُصبِحَ شَخصيةُ المعلم القُدوة ”جَسدًا بِلا رُوح“ وبالله المُستعان!