رسائل من تحت الماء «2-5»
على ضفاف البحر بزرقته لازوردية توجهت بمعية بنتي وزوجتي للمتحف المنعكسة جدرانه على صفحات الماء من أجل مشاهدة المعرض السنوي لفناني البحرين في نسخته 49.
احتفالية تشكيلية أشد لها الرحال سنويا منذ عام 1986 ولحد الآن، وبين عقد وعقد يتجدد ما يقدم وبين عام أو ثلاثة أعوام يتنقل المعرض من مكان لآخر، قديما أي فترة السبعينيات في بهو احد الفنادق، وظل فترة زمنية في بهو المتحف، وذات مرة قدم في الصالة الدائرية لبرج جسر الملك فهد بعد افتتاحه مباشرة،
وحين اختيرت مدينة المحرق عاصمة للثقافة الإسلامية في العالم العربي من قبل «إيسسكو» تقديرا لتنوعها الثقافي وتراثها العريق لعام 2018 قدم المعرض بجوار قلعة عراد بالمحرق وكذا معرض الكتاب، وبعد عام قدم في منتزه أحد الفنادق تحت خيام ضخمة، وقبل الجائحة وبعدها أخذت عروضه في بهو المسرح الوطني، وعاد هذا العام للمتحف، ومنه انطلقت فكرة جائزة الدانة نهاية التسعينيات الميلادية، تنوع في الأمكنة يقابله تنوع في العرض، الأمر الذي يخرجه من رتابة مكان العرض الدائم، فالتشويق حاضر مكانا وكيفا وحتى في طريقة العرض، وكيف لا وهو يحضى باهتمام بالغ على مستوى الدولة منذ تأسيسه عام 1972م ودائما يرعى حفل افتتاحه رئيس مجلس الوزراء البحريني يرافقه سفراء من عدة دول عربية وأجنبية، وحشد من المثقفين والفنانين.
معرض هذا العام 2023 يقدم نخبة من فناني البحرين المعروفين والمشهورين، ابتداء من الفنان الرائد الطاعن في السن الحاج عبد الكريم العريض إلى جيل الشباب الطموح من كلا الجنسين بالإضافة للأسماء المتواجدة دائما من فناني ما بعد الرواد، أمثال عباس الموسوي وإبراهيم بوسعد وجمال الشريف ومريم فخرو، وبلقيس فخرو، والشيخ راشد الخليفة، وجمال عبدالرحيم، وعدنان الأحمد وعمر الراشد، مرورا بالأسماء الشابة الحداثية، أحمد عنان، وجعفر العريبي، وعلي ميرزا وحسن الساري وغيرهم.
كما العادة يستقبل الزائر تعريف عن هوية المعرض وأسماء المشاركين وعددهم الذي يربو على 56 فنان وفنانة، وعند المدخل كتيب فخم مزين بصور ولوحات المشاركين بالإضافة إلى صور شخصيات لجنة التحكيم الأجنبية.
ما جاء في سطور كتيب المعرض تكمن أهميته حول كيفية اختيار الأعمال الصالحة للعرض من بين كم هائل مستبعد، معرض يمثل واجهة البحرين التشكيلية فيتم الانتقاء ضمن الرؤية المعاصرة ببعديها الفني والفكري، مع ترشيح المستحق لنيل جائزة ”الدانة“ التي تشعل روح المنافسة وتستفز ذاتية كل فنان ليقدم افضل ما عنده، بقطف أحد الجوائز الثلاث، فهي لا تُعْطَى جزافا، إنما حسب معايير معينة وضعتها اللجنة القيمة على المعرض والتي أوضحتها عبر السطور التالية:
”لايزال معرض البحرين السنوي للفنون التشكيلية منصة طموحة لعرض الطرافة والأصالة، في كل من القدرات الفنية واللغات الجديدة وفتح آفاق جديدة. وتقدم المشاركة في المعرض حوافز، بما في ذلك جائزة الدانة للمركز الأول، وكذلك للمركزين الثاني والثالث، يتم اختيار الفائزين بالجوائز من قبل لجنة تحكيم يبحث أعضاؤها عن عدة معايير، ينظرون إلى أعمال الفنانين الذين طوروا لغتهم الفريدة في وسائطهم، بأن ينفتح العمل على الأفكار الجديدة، ويكون في الوقت نفسه مترسخا في ثراء مرجعية تاريخية أو أثرية هي أساس العمل الفني الحديث. فهم يجدون الفائزين المختارين جدة ونضارة، إضافةً إلى عقلية طليعية تجعل حدود محيطهم أبعد“.
المتجول في المعرض يتوه بين جمالية الأعمال وطرق عرض الأفكار، تكوينات تتوزع بين اللوحة المسندية وبين الأعمال التركيبية المستلة من خامات البيئة والمستهلكة في تطويع فني بطرح معاصر، وليس تقليد ساكن، بل متحرك بحس تفاعلي.
يتلمس المتابع للمعرض السنوي في نسخة لهذا العام 2023 وكذا المعارض المتأخرة مدى الجدية في البحث والتوزان بين المعنى والمبنى، تكوينات شغوفة تقود لقراءة تأملية لماوراء العمل، وتعدد رسائله.
ثمة أعمال لا تزال مغرقة في الشكلية، وهي قليلة نسبيا تعد على أصابع اليد، بينما الاشتغال الحداثوي يحتل حيزا كبيرا بوسائطه التعبيرية المجسمة والأعمال التركيبية المحسوسة، وحتى على مستوى اللوحة المسندية ليست تقليدية جامدة بل جاذبة ومحفزة للتأمل، أعمال لم تأت من فراغ، إنها نابعة من متابعة صانعيها لما يدور على الساحة العالمية، ثم بلورة المرئيات المفتوحة على مصراعيها في الشرق والغرب وتطويعها محليا ودمجها بالتقاطات لكل ما تزخر به البيئة البحرينية من كنوز مادية واللامادية.
اشتغالات متجددة ومتجذرة لتقاليد فنية راسخة على مدى خمسين عاما، تأخذ مدياتها عند كل مشارك ولاسيما جيل الشباب المتفتق وعيا، بجسارة الطرح ومغامرة التجريب والتنويع، وأيضا نلمس عند بعض الأعمال صدى لما يعرض في البناليات العالمية وأسواق الفن الشهير مثل آرت بازل وآرت باريس وآرت نيويورك وآرت هونج كونج.
هذه حال الحراك الفني في كل مكان تأثير وتأثر، الأمر الذي يحيلنا لمقارنة خاطفة، فمعارض البحرين قبل عشرين سنة ليست كحال اليوم، ما يعرض سابقا مجرد لوحات ”مسندية“ بالكاد يرى فيها مجسم أو عمل خزفي، لكن ما يعرض الآن شيء مدهش، بل قفزة نوعية على جميع مستويات التعبير الفني، خرجت اللوحة المستطيلة أو المربعة من مشهديتها التقليدية، فجاورها عروض الفيديو آرت والفن المفاهيمي والتجهيز في الفراغ والفن التجميعي، وأيضا دمج بين الرسم بالتصوير الفوتوغرافي والخط العربي، إضافة للتراكيب النحتية بتشكيلاتها البعيدة عن النهج الكلاسيكي الجامد. بعض الأعمال تشغل حيزا بين جدار وأرضية، خروج عن أطر تقاليد العرض المألوفة، رغم كل ذلك من مجالات التعبير الفني لم تزل اللوحة المسندية حاضرة وبقوة.
المعرض أشبه بسباق تنافسي محمود بين الفنانين البحرينيين من أجل طرح أفكارهم والبحث عن الجديد على أمل خطف الجائزة أو تقديم عمل يقول شيء للمشاهد.
كل عمل ورائه فكرة نيرة قدمت برؤية معاصرة وأسبغ عليها الفنان فلسفته وثقافته وفطنته وفهمه لقيمة العمل الفني سيصيب رسائله ويحقق أهدافه.
وتبلغنا الفنانة مياسة السويدي الفائزة بالمركز الأول بجائزة الدانة عن عملها: ”أُحجية“ وهي المتخصصة في مادة الرياضيات بأنها ربطت بين المنطق مع الفن التشكيلي لافتة إلى أن ”الفن يتضمن مزيجا من الفرح والحماسة والسعادة والهدوء، - وتقول عن عملها - في عملي أظهرت قدرة الألوان على التقاط هذه المشاعر النفسية بطريقة تجريدية“، قدمت عملين كل واحد يكمل الآخر في توليفة لونية ثرية، جماليتهما تكمن في التنقلات اللونية المتآلفة والمتحركة ضمن شكل إنساني مجرد زاخر بأحجية لونية.
وجاء المركز الثاني من نصيب الفنانة ندى مقهوي عن عملها ”الشخصية الغامضة“ المكون من 21 قطعة بحجم الواحدة 30×40 بمادة الطين، داخلها شخصية فتاة متبدلة الألوان بأوضاع حركية متغيرة مع كل قطعة، أشبه بلقطات شريط سينمائي وكأنها تقص حكاية، رسم عفوي اقرب لرسوم طفل، والمعنى يشير إلى ”الشخص الغامض الذي يبذل قصارى جهده محاولا إخفاء ضغوطات الحياة وندوب روحه وجوانبها الأكثر ظلاما“.
وحظي الفنان سلمان نجم بالمركز الثالث عن عمله "اكسو، ألفا، تشي، اوميغا» وهي لوحة تتطرق إلى التناغم بين عدة أيقونات ثقافية عالمية، ويركز على الجندر الهويات المتغيرة بين «الذكر والأنثى»، عمل مزدحم بالإشارات والرموز موزعات على قطعة من الصفيح المتموج ”الشينكو“ مستطيلة الشكل مع لصق قطع من الأخشاب وقصاصات الفلين لشخوص من حضارات قديمة ضمن توليفة فنية رائعة.
جل الأعمال المعروضة تحمل في طياتها أفكارا نيرة تلامس حياة الناس، وأخرى تستعرض قضايا كونية عامة. كل ما يقدم في المعرض السنوي يعطي مؤشر لما وصل إليه الفن البحريني من تقدم ورقي وإبداع.
وبعد أن خرجنا من قاعة المعرض، وعند بهو المتحف يتوسط جناح استعادي للفنان الراحل خليل الهاشمي الذي يعد علامة بارزة في النحت البحريني، رحل ولم يرحل، فكل فائز يحتضن تصميمه المميز لجائزة الدانة.
التجوال بين الأعمال الفنية متعة بصرية ورياضة فكرية وحوار لا ينتهي طالما الإنسان مجبول على صنع الجمال، وتكمن الدهشة بسؤال لماذا تندفع الذائقة تلقائيا بالنظر إليه، أي لغز وراء جاذبية الفن!
إضاءة لونية:
ثلة من فناني البحرين قدموا ورشا فنية لجماعة الفن التشكيلي بالقطيف وأيضا شاركوا في بعض معارض الجماعة؛ عباس الموسوي، عمر الراشد، جمال عبدالرحيم، علي ميرزا، حسن الساري، أحمد عنان، سيما باقي، محسن غريب.