تغييب العقل عن عقيدة التوحيد
قال تعالى: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْـ?ًا..﴾ [ يونس: 36 ]
تتحدث الآية الكريمة عن العامل الكبير والمؤثر في انحراف الناس عن عقيدة التوحيد واتجاههم نحو سبل الانحراف والضلال المختلفة ومنها عبادة الأصنام والأوثان، وهذا العامل يتمثل في إهمال الحركة الجوهرية والكمالية للعقل والاتجاه نحو طريق الأوهام وتقبل الخرافات بدون أدنى تأمل ودراسة لها، مما أنتج مجموعة من التابعين المنقادين بلا عقل نحو تقبل فكرة الشرك وعبادة الأصنام، والتي بأدنى التفانة وتأمل في فكرة تدبير شئون العباد والكون من قبل كومة حجارة تبعث على التعجب والاندهاش من تقبلها والالتزام بها!!
وأما الفئة المهملة من الأكثرية فهم الزعماء الذين كانوا يبذلون الجهود الحثيثة في سبيل الحفاظ على زعاماتهم من خلال الحرص على عبادة الأصنام والتنادي لها، ولم يكن هناك أدنى اعتقاد بصحة هذا المعتقد الوثني الباطل عندهم، وإنما هو مورد مهم من موارد المصالح والمنافع التي يعملون ليلا ونهارا على الحفاظ عليها من خلال الدعوة لقدسية الأصنام والادعاء الزائف بألوهيتها!!
ولكننا إذا درسنا موضوع الأعراف والعادات الاجتماعية وتأثيرها على الوسط الجمعي والانقياد لها بلا شعور واعي، لتفهمنا فكرة الاتباع الأعمى لعبادة الأصنام والاعتقاد بأهليتها للإلوهية والربوبية - والعياذ بالله من ذلك - دون القبول بها مطلقا، إذ عبادة الأصنام تعبر عن انحطاط وضمور فكري وغياب للوعي فلا يمكن تصور أن تلك الحجارة التي لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا يمكنها أن تتزحزح قيد أنملة فضلا عن تصور تسييرها لدفة الكون العظيم، ولذا تعالجها الآية الكريمة وتقاربها من جهة الباعث والداعي إلى هذا الفعل الشنيع، وهو اتباع الظن والأوهام وتقبل الفكرة دون تأمل وتمحيص ودراسة دقيقة لها، وإنما وقعوا ضحية الجهل وقوة الضغط الاجتماعي فآثروا السير على النهج المتبع في أقوامهم والموروث من الآباء بتقليد أعمى، وتعبير القرآن الكريم عن اتباعهم الأعمى لعبادة الأصنام بالظن هو توصيف لحالهم التفكيري الخاطيء والبعيد - كل البعد - عن الحصافة والوعي وإخضاع الأفكار لمجهر التدقيق والاستناد للأدلة العقلية الموثوقة، فأدنى التفات وتأمل في هذا الكون الوسيع وحركته الجوهرية سيصل إلى نتيجة واضحة لا لبس فيها، فهناك قوة مقتدرة بنحو مطلق تقف خلف تسيبر هذا الكون وما فيه وفق الحكمة والإبداع، وهذا - بالطبع - ما لا ينطبق على ادعاء الإلوهية لركام الحجارة المصنوع بيد الإنسان!!
الحوارات التي خاضها الأنبياء مع أقوامهم من أجل بيان عقيدة التوحيد الحقة ودحض الأفكار الشركية بادعاء الإلوهية للأصنام والكواكب وغيرها، اعتمدت على لغة العقل والوصول إلى قناعات مبنية على البراهين الواضحة، مما يجعل المرء أمام صورة ومشهدية غير قابلة للنفي بل يتقبلها العقل وينساق خلفها لقوة استدلالها، فأشارت الآيات القرآنية إلى الظواهر الكونية وما يحويه هذا الكون من مخلوقات يتعجب الإنسان العاقل المنصف من بديع صنعها ودقة خلقتها، ولكن العقول إذا غلفتها الجهالة وآثرت صم الآذان عن استماع الحقيقة والإصرار بعناد على موروثها العقائدي الضال، فلن يجدي معها أي حوار مهما كانت دقته وبلاغته وسلاسة بيانه، وهذا ما حدث مع الأنبياء في مواجهة جهلة أقوامهم حينما استخفوا عقولهم وواجهوا الأدلة العقلية بالاستهزاء واللا مبالاة، وهكذا نجد أن النصيحة على أهميتها وعمق تأثيرها لكنها تتطلب قالبا نظيفا من الأوهام ويصغي للحق.
وهذه الجنبة التي تعالجها الآية الكريمة وهي تأثير الأوهام والخرافات الاجتماعية على العقل فتغيب عنه البصيرة في الأفكار وتمييز الحق من الباطل، لا يقتصر على الجانب العقائدي والإيمان بالله عز وجل والخلو من شوائب الشرك والوثنية، فإن المشترك بين الأفكار والرؤى والتصورات في جميع الجوانب هو غياب الوعي والتدبر العميق للذي يصله من مفاهيم ومواقف وظواهر تتعلق بالجانب المعرفي والفكري أو العقائدي أو الثقافي أو الاجتماعي، والساحة اليوم تتسع لجم كثير من الأفكار والسلوكيات التي يتبعها الناس دون نظر وتحقيق، بل تجد من يستجيب لندائها والصخب المصاحب لها دون التعرف على حقيقتها وأبعادها.