الاحتراق الوظيفي.. بين الإقدام والإحجام - حَدَثٌ وحَدِيثٌ ”46“
مِن المعرُوف أنّ «أوّلَ مَن اكتشف مصطلح ”الاحتراق الوظيفي“ هو العالم النفساني الألماني: هاربرت فرويد نمبرقر في عام 1974م» * كما أنّ المصطلحَ النفسي نفسَه، مُعترف به، لدى مُنظّمة الصحة العالمية… ويُعرّف بأنّه: «نوع خاص مِن التوتّر المُرتبط بالعمل، فهو حالة مِن الإرهاق البدني، أو النفسي، يتضمّن أيضًا إحساسنا بتراجع الإنتاجية، وفقدان الشخصية» *... ولعلّ أساسَ قاعدةٍ حكيمةٍ شَائعةٍ مُثلى، مُشابهةٍ لتعريف نتيجةِ مُحتوى الإحتراق الوظيفي، ترسُو وتقترِب رُويدًا، مِن مَفاهِيم ثُلّة العُقلاء، ألَا وهي رَنّة خُلاصةِ المقولة الرصِينة، الجديرة بالتأمّل والتدبّر: «الزيادةُ أُختُ النقصان» فكلّنا يَعي ويُدرك تَمام مِقدار حَاجتِنا البيولوجية المُقنّنةُ الكَافيةُ، مِن حُصص المَأكَل والمَشرَب؛ وكَذا تقنِينِ ساعاتِ العمل المُثمِرةِ؛ وتنظِيمِ أوقاتِ الراحةِ المُستجمّةِ؛ وتبادُلِ أدوارِ الكلام المُفيد؛ وانتهاجِ هُنيهاتِ الصمتِ المُصاحِبةِ؛ غَير أنّ حَالاتِ الإسرافِ الزائدةِ، ومِثلها سَاعات الهَدْرِ المُتوتّرةِ، وأَوقاتِ التبذِيرِ الممقُوتةِ - المشبّعةِ بمشاكل العملِ المُتجدّدةِ - لها قيود أَضرارها الخاصة، وبنود مَخاطرها السلبية الضارّة، التي تظهرُ عادةً، في أَحلكِ سَحنتها المُهترئة ”مْشوّشةً“ جَليةً، على حِساب سَلامةِ بِنيةِ الصحةِ البدنيةِ العامةِ؛ وصَفاءِ الذهنِ المتيقّظِ؛ ونَقاءِ الراحةِ النفسيةِ المُطمئنةِ؛ وهُنالك، يُؤطَّر، باختلالٍ أو اعتدالٍ، مُستوى طبيعة نسق ”الاستقامةِ السلوكيةِ“ المُثلى عند بَنِي البشر؛ وتَتجلّى عَظمةُ التنظّيم الربّاني المُبدِع، مُتألقةً قائمةً - بحكمةٍ وتدبيرٍ - لحركةِ دَبيبِ سائر مَمالِك الدواب المختلفة، الدابة في مَناكبِ سَطحِ الكوكبِ الأرضَي…!
ومِمَّا يَطفُو على استواءِ مَرأى ظاهر السطح ”الفاضِح“ اجتياحًا، مَلحوظًا؛ ويَتملّك بخطفِ جُلّ المشاعرِ الفياضةِ؛ ويَستوطِن لُباب الفِكرِ النيّرِ، حَالتا الإدمان النفسي، والانغماس الكلّي في جوفِ بَوتقةِ حَماسةِ العملِ الوظيفي المُشتعلة، مِمّا يؤثر سَلبًا مُقلِقًا؛ يسمحُ ويفتحُ تدريجيًا، غلبةَ استحواذٍ حَتميّ، لمُتلازِمةِ الاحتراق الوظيفي المَرَضِي، ويستجلبُ انسحابًا، سِمةَ الانغماسِ المُتنطّعِ، دُونَ أدنَى مُواربةٍ، أو أقلّ مُداهَنةٍ، أو أبسَط إيماءةِ غُموضٍ، تُذكر… وفيما يُروى عن النبي صلّى الله عليه وآله وصَحبه وسلّم: «إنّ اللهَ تَعَالّى يُحبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ» *... غَير أنّ أساليبَ المُبالغةِ، وأنماط مُمارسات الإفراط المُملّ، وأصناف التنمِيقِ الزائد المُخِل، في أداء برنامج مَهامّ العمل الوظيفي المُعتادة، والتشبّع بمشاكِلها، غير مُستحسَنةٍ؛ أو مُحبّبةٍ، وقد تؤدّي مَغبّة ذلك النهجِ المُبالَغ فيه تِباعًا، إلى جُملةٍ مُستهجنةٍ مِن أّصلِ حُزمةٍ مَاثلةٍ، مِن أبغض النتائجِ النفسيةِ العكسيةِ النازلةِ: كزَرعِ الوَسوَسةِ، وزَعزَعةِ الثقةِ؛ وهَجمةِ اللّوثةِ… وقد تتسبب عَرَضًا، إحداهم مُنفردةً، أو جميعُهم مُجتمعين، في تَسريعِ وتَطويعِ هَجمةِ نوبةِ مُتلازمةٍ مَرَضِيةٍ، لا يُحمَدُ عُقباهَا، ولَا يُرَدُّ مَأتاهَا - جُملةً وتَفصِيلًا - وتُحدِثُ لَاحقًا، بحُلولها الشكِس، عَائقًا مُلازِمًا، في إضاعةِ مُتّسعِ فُسحةِ الوقت؛ وإضعافِ كفاءةِ نشاط الجُهد الثمينين، فيما لَا فائدة تُرجَى مِنه، على حِسابِ سَلاسةِ الأداءِ المُبرمجِ لمُفرداتِ قَائمةِ مُعتادة، في صُلب برنامجِ العملِ اليومِي الشامِل؛ ومَا يَحوِيه مِن مُتطلبات ومَهام أَساسيةٍ، يَحتاجُ إليها الجِسم السليم ويَبتغِيها الوِجدان المُعافى؛ وتَتطلّع إلى مُنتهاها قُدْمًا، مُستقبلاتِ بوابةِ الفِكر المُستنِير…!
وهُناك جُملةٌ مِن أهمّ النتائج، التي أفضَت بها دِراسةٌ تربويةٌ مَيدانيةٌ مُوثّقةٌ، لواقِع مُعاناةِ الاحتراقِ الوظيفي عند بعض الموظفين، ومِن بينهم ”المعلمين“ خاصةً، في الوطن العربي مَفادها: «اضطلاعهم بحجم ونوع العمل المُقدّم إليهم، مع ضِيق الوقت المُخصّص؛ وازدِحام الفصول الدراسية بطلابٍ ذي مُستوياتٍ وقُدراتٍ مُختلفةٍ ومُتنوّعة، وبعضهم مِن ذوي الإعاقةِ الدراسيةِ الظاهرةِ، ويحتاجون إلى مُثابرةٍ مُضاعفةٍ؛ واهتمامِ المعلّم المُشرِف؛ ومُتابعتهِ التربوية المُستمرّةِ؛ واستنفاذ طاقته الوافِرة؛ وإعمال خِبرته المُستنِيرةِ؛ والتدخّل المُباشِر في حلّ مَشاكل الطلابِ المُختلفةِ، مَع غيابِ المُساندةِ، مِن الإدارة، وأولياءِ الأمور» *… كل تلك المهام التربويةِ والإداريةِ الماثلةِ، تُقرَأ أمام خُطةِ عمل المعلم، ومَا يتبعها مِن ضُغوطِِ التشتّتِ، شَاخصةٍ - بقضّها وقضِيضِها - في مَيدانِ العملِ، منها على سبيل المِثال: عَلاقةُ المعلمِ بمديرِه المُباشِر؛ ومِثلها، عَلاقته مَع الموجّه التربوي؛ واشتغالهِ وانشغالهِ بمُتابعةِ وحل مَشاكل الطلاب؛ وكذا استجاباته لانطباعات وانتقادات بعض أولياء أمور الطلاب المباشرة، لما يقدّمه المعلم… كل تلك المهام المُتكالبة اليومية، التي تسطّرها وتتصدّرها ”أجِندة“ جَدول الاهتمامات المُتناميةِ، وقد ألقت بتزاحُم ثِقلها لِزامًا، على شديدِ كاهلِ المعلمين، خاصة الجُدد منهم، والذين تتراوح أعمارهم بين ”20-39“.
ولَعلّ كَيلًا مِن راجع انعكاسات مُحتوى مَرحلةِ مُتلازمةِ الاحتراق الوظيفي، المُشار إليها آنفًا - تَناوُلًا وتَفصِيلًا - مَا هِي إلّا جُزءٌ لَا يتجزّأ، مِن عملية الاحتراق النفسي الأم الشاملة، بِما تشتَمل عليه مِن تطوّرٍ وتفاقُمٍ مَلموسَين، لحُزمةِ مِن وَقعِ هجمة تلك الأعراض المترابطة المُتداخلة؛ تنتظر - بفَارغُ صَبرٍ - قَدْحَ ”عُودَ ثِقابٍ“ نشطٍ؛ لتُشعِل وتَشلّ داخِليًا، نسيج البُنى الحيوية العليا للفردِ المُؤرَّق: نفسيًا، وجسديًا، واجتماعيًا، وفكريًا... وقد تؤدّي إلى امتدادِ سِلسلةٍ مُن حلقاتٍ مُترابطةٍ مِن أرذلِ توابع المراحلِ الانسحابية المتقدّمة، مِثل حالات الاكتئاب المتكرّرة؛ والميل إلى الانفراد والعُزلة؛ وسْرعة الاستثارة الذاتية؛ والهشاشةِ النفسية؛ والتوتّر غير المُبرّر؛ وحِدّةِ المِزاج السوداوِي المُتقلّب؛ وفورةِ الحسَاسيةِ الوِجدانيةِ المُفرطَةِ، وحالات اضطراب النوم المُزعجة…!
وفيما يختصّ ببرنامجِ خُطة العلاجِ المُبرمجِ، فقد يتمّ متابعته عن طريق إعادة تقييم وضبط البرمجةِ النفسيةِ، بمُساعدةٍ خارجيةٍ: ”طِبنفسِيةٍ“ سَريريةٍ عَصريةٍ مُتخصّصةٍ، لتَشخيصِ ومَعرفةِ جملةِ أهم الأسبابِ النفسيةِ، والدوافعِ الاجتماعيةِ، التي أوصلت ”المريض“ إلى سَقفِ متلازمة الاحتراق النفسي… ولعلّ أحدَ أسباب شرارتها المارقة الحارقةِ، هي ولادة توائم ”خُدَّج“ إنْ صَحّ التعبير، ومِن أبرزِها: حالتا التوتر الشديد، والاكتئاب تنائي القطب… حيثُ القطب الأول حالةٌ مِن الشعُور بالنقصِ والدونِيةِ، وعدم الكفاءةِ الشخصيةِ، لمواجهة المتطلبات الفنيةِ الوظيفيةِ، أو الأمور ”الحياتيةِ“ العامةِ؛ والثاني انتهاج ظاهرة الزّهو المُفرِط، والظهور المتعالي في حاضِر أوساطِ المجتمع؛ وعدم تقبّل النقد الاجتماعي المُوجّه القادِح... وعِندئذٍ تتنوّع وتتعدّد أساليب العلاج السريري بين المُساعدةِ في إعادةِ البرمجةِ النفسيةِ؛ والمُواءمةِ، وإعادة التكيّف الاجتماعي؛ وآخر أحدث صيحة طبنفسية: العلاج بالفن، عن طريق النفوذ إلى أعماقِ دواخلِ النفسِ؛ وتشجيع الاستبطان الذاتي، باستخدام أساليب التأمل الذاتي ”الفَضفَضة“ في لوحاتٍ، وأعمالٍ فنيةٍ مَدروسةٍ مَخصوصةٍ، أُعدَّت لصالحُ هذا الغَرض العلاجِي؛ بغية احتِواء واستعادَة الطاقات الحيوية المُستنفذَة للمريض، وترمِيم مَا يُمكن إعادة تَرميمه نفسيًا، وجسديًا، واجتماعيًا، وفكريًا…! وبالله المُستعان.