الشيخ المقدسي.. الخلق المنبري المتجسد
يمثل الجانب الأخلاقي في كل مهنة وتخصص ركيزة أساسية من ركائز تسيير العمل وفاعليته، ومنبعا من منابع تفاعل المستفيدين وتمثلهم لإرشادات مقدم الخدمة، وكل متخصص في علم من العلوم، وبغض النظر عن طبيعته لا بد أن يدرس أثناء تلقيه لمواد العلم أسس أخلاقيات العلم، ليكون وقت تقديمه لمعطيات ذلك العلم في مجال التطبيق بعيدا عما تقتضيه النزعات الفردية الضيق، من الثراء في المال أو التفاخر بالمنصب، ويأتي في مقدمة هذه الوظائف والتخصصات الخدمة الحسينية المباركة من قبل أرباب المنبر وأساتذته، بل هم في سلم الأولوية يكونون الأجدر بما يمثلونه من موقع تأثيري في جماهيرهم.
في مقدمة وطلائع أساتذة المنبر في عصرنا الحاضر يأتي اسم الشيخ الدكتور محمد باقر المقدسي «1358-1444» - «1939-2023»، «تغمده الله بواسع رحمته»، كعلامة بارزة ومعلم وضاء للمنبر العلمي المسؤول، والمفعل بحق لدقائق الجوانب الأخلاقية في آداب الخدمة المنبرية.
من خلال بحثه الذي قدمه كأطروحة لنيل شهادة الدكتوراه من الجامعة الإسلامية العالمية «2000»، الذي كان بعنوان: «دور المنبر في التوعية الإسلامية، تناول سماحته في جانب منه المواصفات والمؤهلات الأخلاقية للخطيب حيث عدد من ضمن تلك الصفات صفة التواضع الصفة التي كان «رحمه الله» يطبقها على نفسه بكل مصداقية.
كان لي شرف التعرف على هذه القامة الخطابية قبل أكثر من عشرين عاما حيث كنت ألتقيه أثناء وجودي في دولة الكويت وبالتحديد في الحسينية الكاظمية «البكاي» العامرة، وكان يبادر بزيارات، وأحيانا أكون برفقته في بعض الزيارات، أو لبعض الحسينيات، ومع الفارق الكبير في الجانب العلمي والمكان، والسن إلا أنني لم أكن أشعر معه بنظرة استعلائية أو فوقية، بل كان في توجيهاته كالأب المشفق.
ومما حداني للإشادة بهذه الشخصية والكتابة عنها تلك السمات الرائعة في التعامل، والتي تستحق أن تكون موضع قدوة وتمثل. فمن مظاهر هذا الخلق الكريم لديه «رحمه الله»، اذكر ما يلي:
أولاً: كان يحمل معه دفترا صغيرا في جيبه ولمجرد أن يسمع معلومة في أي حقل أو اسم كتاب لم يسبق له الاطلاع عليه فإنه يبادر بتسجيل ما يسمعه مهما كان قدر وسن المتكلم.
ثانيا: كان لا يبخل على مريديه بأي إرشاد، ويحرص على توثيق ما يذكر.
ثالثا: كان لا يستنكف أن يطلبه معرفة ما يريد معرفته حتى مما هو أقل منه علما وتجربة وعلى سبيل المثال، اتصل بي يوما من الأيام وأخبرني أنه عازم على السفر لمملكة البحرين استجابة لدعوة موجهة له، فكان يسأل عن بعض القصائد التي اعتاد أهل البحرين على سماعها، كما كان يسأل عن بعض الأطوار الرثائية البحرانية، وطلب مني أن أملي عليه شيئا من القصائد. وهذا من أعظم الدروس التي تعلمتها منه «تغمده الله بواسع رحمته».
رابعا: كان يشيد بما يسمعه من سائر الخطباء ويكبر، فلم يكن يحمل ذرة تعال أو حس، وكذا كان إذا سمع إشادة بخطيب من خطباء المنبر. وأتذكر أنه أكثر من مرة كان يشيد بمستوى المنبر في القطيف، ويراه أنه في موقع متقدم، وكان يقول لي ما أسمعه من خطباء القطيف في مقدمتهم: سماحة السيد منير الخبا، وسماحة الشيخ حسن الصفا، وسماحة الشيخ فوزي آل سيف، يدل على أن القطيف تمتلك كفاءات كبيرة جدا على المستوى الخطابي. قل أن تتوفر في أي منطقة أخرى.
وإجمال، أن الحديث عن هذه الشخصية المعطاءة حديث متعدد الجهات ومتسع الجوانب وإنما أردت أن أسجل بعض ما لمسته مما شاهدته منه، تذكيرا وإشادة بهذه القامة المنبرية. تغمده الله، وسائر خدام سيد الشهداء - من الخطباء الماضيين - بواسع رحمته، و«إنا لله وإنا إليه راجعون».