السياحة المعلّبة
مع بدء موسم الإجازة وشروع كثيرين في رحلات الصيف، تنهال علينا صور ومقاطع السوّاح. ويعنون البعض مقاطعهم بأبيات من قبيل: سافر ففي الأسفار سبع فوائد. وغيرها من الأبيات المشهورة.
لا شك أن السفر تجربة فريدة عندما يخرج الواحد منا من روتينه ومحيطه إلى وسط مغاير في عاداته وتقاليده. لكن السياحة أخذت تتطرف في تجانسها إلى حد إفقار تجاربنا في السفر. تتشابه المدن في سلاسل فنادقها، وتدفعك برامج الولاء واحتساب النقاط والعضويات لتكرار الإقامة في ذات الفنادق. ثم تأتي الشركات العابرة للقارات لبناء المجمعات التجارية بتصاميمها المكررة في كل المدن السياحية، وتعيد تأجيرها على العلامات التجارية المعروفة لتجد نفسك في فنادق ومجمعات تجارية متشابهة في كل مدينة تزورها.
وإلى جانب الفنادق والمجمعات، يتم تصميم تجارب السوّاح لتتطابق في كل مكان. لا تخلو مدينة سياحية من حافلة مكشوفة تصعده مع مجموعة يعتمرون قبعات، ويضعون نظاراتهم الشمسية، ويلتقطون الصور وهم يجوبون شوارع المدينة.. تنقلهم الحافلة من مكان إلى آخر بأسلوب قطيعي Herding يسوقونهم لتتبع آثار بعضهم البعض.. ويطلبون منهم التقاط صورة هنا وأخرى هناك.. وعادةً ما يوجد في تلك المدن مطلّ عال، Observary, كبرج أو قمة جبل يتجمع حوله وعليه السواح.
حتى زيارات المتاحف، تأخذ نمطاً تعليبياً سخيفاً أحياناً.. ولا أزال أتذكر زيارتي الأولى لمتحف اللو?ر بباريس، حيث أُجبرت على الوقوف في طابور طويل، وكان من الصعب التفاهم مع الموظفين بسبب اللغة، لأجد أنهم افترضوا أن كل زائر بالضرورة يريد رؤية الموناليزا، حتى لو ضاع نصف يومه وفاته كل ما في ذلك المتحف، الذي سألت الموظفين فيه عن اللوح الذي كتبت عليه شريعة حمورابي، فلم يعرفه إلا واحداً أخبرني بأنه في قسم مغلق للصيانة؛ لأن رؤيته ليست مهمة لمستهلكي الفرجة الذين يلتقطون السيلفي بفلتر مع الموناليزا.
عندما تهرب من المدن الكبرى هرباً من التعليب المسوّق لتجارب السياحة، يفاجئك سائق سيارة الأجرة باقتراح برنامج معلّب. وعندما تطلب منه ما تريد يبدي استغرابه لما سيفوتك من تجارب السواح. ستراه يقترح عليك ما ينبغي التقاط صور له وما لا ينبغي. والطعام الذي ينبغي تذوقه وغيرها من الأمور.
كل هذا التعليب ازداد في السنوات الأخرى مع وجود الشبكات الإلكترونية المروجة لل Must see وال Top attractions ثم من يسمون المشاهير الذين يقومون بالتغطية المصورة لرحلاتهم لتكون رحلات أتباعهم ومقلديهم على نفس المقاس، ”يأخذون عنهم مناسكهم“، في السكن والأكل والتسوق وحتى في التقاط الصور.
التقاط الصور هذا نفسه عمل تطرّفنا في ممارسته حد الاغتراب. تجد السائح المنمّط يرى المدينة ومعالمها لا بعينه بل من شاشة هاتفه التي تلتقط الصور والمقاطع ليتلقّاها متابعيه، ويتلقاها هو معهم لاحقاً دون أن يعيش اللحظة بكامل شعوره وأحاسيسه. يتحوّل وهو يلتقط المقاطع والصور كمجرد حامل لا يعيش ما يراه، بل يعكسه ثم يستهلكه لاحقاً كتدفق للصور.
يعود السائح المعلّب من رحلته محمّلاً بصور مكررة من الصور التي التقطها سابقوه، وبذكريات يعتقد أنها تشبه ذكرياتهم بعدما سار على خطاهم. أفرغ جيبه وامتلك رصيداً في تجارب مكررة ومستنسخة. شبه فارغ من تجارب مع الشعب الذي زار بلادهم، ربما لم يكتسب كلمة من لغتهم، ولا تعرف على شيء من طباعهم ولا عاداتهم ولا تقاليدهم، لأنه ساح في فنادق الخمس والأربعة نجوم، وتبضّع من محلات مشابهة لتلك التي تقع في المجمع الذي يقع قرب مسقط رأسه.