على ضفاف نهر الذكرى: الذكرى السنوية لرحيل د. صادق العمران
قبل سبعة أعوام غابت شمس عن سماء الأحساء، فلف الكون ظلام حزن دامس.
لم تتشح الأحساء وحدها ولا المنطقة وحدها، بل عم الحزن مساحة واسعة من وطننا الغالي.
في يوم الثاني عشر من ذي الحجة عام 1438، رحل علم من أعلام الإنسانية العظام، فهز فقده الأنام وكل مكان كان له فيه حضور وقتا ما، وكل قلب لامس حنانه ودفء روحه الإنساني، بل هز تلك الأماكن وتلك القلوب التي لم تلتق به، وإنما وصل اليها صدى سيرته المشرقة، وفي رحيله كان الجميع يشعرون في داخلهم أنهم فقدوا كنزا ثمينا.
في ليلة الثانية عشر من شهر ذي الحجة الحرام، وعند الساعة التاسعة والنصف ليلا، وقوافل الحجيج تغادر أرض مكة المكرمة، شاكرين الله على إتمام مناسكهم، والنَّاس وهم جيعيشون فرحة العيد، سلب فرحتهم أفول نجم من الأنجم المشرقة بالعطاء، وغياب نور من الأنوار المشرقة في صفحة أفق الإنسانية، ونضوب ينبوع من الينابيع المتدفقة بمعاني الخير والإنسانية، ففي مثل هذه الليلة غابت عن الوجود المادي روح علم من أعلام الجمال الكوني، ومعلم من معالم الوفاء الإنساني، وأستاذ كبير من اساتذة العلم، صرف حياته ووقته معطيا ومضحيا.
إنه الرجل الحكيم، الذي كان عقله ميزان أعماله.
رحل إلى عالم الخلود الدكتور القدير ذو القلب الكبير، صادق العمران بعد رحلة حياة مشرقة ملأى بأجمل ما يمكن أن يعطى.
د. صادق العمران الذي كان يؤلمه رؤية مشهد لإنسان يشكو جوعا أو يبيت مغتما أو محزونًا، وكانت لا ترتاح روحه إلا أن يروح عن تلك الأنفس، ويبعث فيها الابتسامة والبهجة، حتى وهو في أشد حالات الألم وأعظمها.
د. صادق العمران الذي كان لا يعرف سعادة في الحياة غير إدخال السعادة في أنفس الآخرين.
د. صادق الذي كان لا يفهم من المال إلا أنه وسيلة من وسائل نشر العلم، وإدخال السعادة على الآخرين.
كان يشعر بالراحة النفسية عند قضاء حوائج الآخرين، حتى وهو في أشد الظروف الصحية عناءا ونصبا.
لاقى في حياته كثيرا من الشدائد والمحن، وكانت من القوة بحيث أنها تكسر النفس، إلا أنه لم تنكسر سورته، وظل صامدا، يلقى الصعاب بابتسامة مشرقة بالأمل.
لقد جعل محبوه وداعه لوحةً من المشاعر الجياشة، استمات محبوه لرسمها مسجلين في زمن الإنسانية أضخم رصيد للوفاء.
وحد الحزن لقاء جميع الأحبة، واجتمعت القلوب حول من كان لشملها جامع، ولرباطها موثق.
وبرحيله ذرفت العيون دموعا غزارا، وتقرحت الأجفان حزنا وألما لرحيل هذا الطود الشامخ الذي أخذ حبه بمجامع قلب من عرفه أو من لم يعرفه ممن سمع به.
وتوالت كلمات الحزن الممزوجة بالحب لتعبر عن عمق المصاب، وغزارة جرح الفقد، فتدفقت الكلمات متشحة بلباس الحزن، لتؤدي واجب الحب والإخلاص تجاه هذا الفقيد العظيم.
- عم الدعاء له بالشفاء - أثناء مرضه - كل ملتقيات التواصل الاجتماعي في مختلف المناطق.
- وصلتني رسائل تشيد بالفقيد من مختلف أنحاء الممكة، من الرياض ونجران ومكة والمدينة وسائر مناطق بلدنا الغالي وبعض الرسائل كانت من خارج الوطن.
- اجتياح الحزن مناطق متعددة فور اعلان انتقاله للرفيق الأعلى، وكانت رسائل متشحة بلباس الحزن، وفي التوتير على سبيل المثا، كانت الرسائل حول خبر وفاته الثانية عالميا.
- الحضور الضخم والتشييع المهيب الذي حظي به، بالرغم من مزاحمة الوقت، حيث كان التشييع مبكرا، والأجواء الحارة، إلا ان الحضور كان كثيفا. ولم يكن مهيبا من ناحية العدد فحسب، بل من ناحية الكيف، فأينما نظرت رأيت الحزن يغمر وجه الحضور، والدموع تتدفق تلقائيا.
- الحضور الكثيف للمعزين، حيث ظل الحضور قويا لآخر يوم في مجلس العزاء.
تجمع المشيعون وأنفسهم تسيل لوعة وأسى، حول سرير نعشه بالبكاء والقلوب قد آلمها جرح المصاب ولوعة الرحيل.
كان منظرا محزنا، ومع مرور عام على ذلك المشهد، إلا انني أتخيّله مشهدا حيّا للتو في ظلاله الحزينة.
بللت الدموع تراب تلك الأرض التي ضمت ذلك الجسد الذي تجسدت فيه معانٍ عظيمة من معاني الإنسانية.
وكانت ساعة رهيبة تلك التي ودع فيها الأحبة حبيبهم وأودعوه تراب تلك الأرض.
إن ظلآل حرفكِ فيه ألف إشراقة وجمال فهل لنآ ببوح من ظِلآل جمآلك الوجودي
علاقة الدكتور بالنادي تمتد لأكثر من 15 سنة، تقلد خلالها عدة منصب في إدارة النادي، حيث كان عضوا إداريا في فترات سابقة، وتولى بعدها منصب نائب رئيس النادي.
للدكتور صادق أياد بيضاء في مسيرة النادي المباركة فلقد كان فاعلا وقائد عظيما ومفكرا ومبدعا، وبفضل أفكاره النيرة والتجديدية ازدهرت ألعاب النادي المختلفة بفضل رعايته الكريمة. وقد كان يعد لخطة تطويرية مستقبلية للنادي، لكن القدر حال دون ذلك.
لئن قيل أنه إذا ذهب العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها غيره.
فإنني أقول ودون أي مجاملة أو تملق، إن فقده أحدث ثلمة في اختصاص الاطفال لا يسدها أحد، عندما ننظر إلى ذلك من جميع الأبعاد الإنسانية الشاملة والكلية، ليس من ناحية علمية فحسب، بل من جانب إنساني أيضا، لأن الدكتور يمثل مشهدا حيا إنسانيا متميزا لم نر له نسخة مشابهة.
هو الإنسان الذي وهو قبل وضعه على التنفس الصناعي يبدي إعجابة بمقالة علمية أرسلتها في ملتقى كان فيه، أي شخص في هذا الوضع لديه القدرة على الاستمتاع بلذة المطالعة في ذلك الظرف الصحي الصعب.
1- يتم تنويم طفلة في العناية المركزة بفشل كلوي، وهو في إجازة ومع الصوم الحر يأتي كل يوم للإشراف على علاجها حتى تماثلت للشفاء.
2- يتصل عليه أحد الآباء بعد الساعة الثانية عشر ليلا فلم يتضجر، وطلب منه الذهاب للاسعاف. واتصل د. صادق بالاسعاف والقسم ليضع لها الخطة العلاجية، وتابع بعدئذ حالتها بالمستشفى.
3- أخبرتني إحدى المهات انها أخفت عن ابنها خبر رحيل الدكتور صادق، لأن الطفل ذي التسع سنوات كان شديد الحب والتعلق بالفقيد إلى حد يصعب وصفه.
من يكبره في العمر ومن يصغره يشعر أنه بحاجة إليه، فهو وردة تبعث العطر حتى من لم يعاملها بلطف.
كان يرعى أيتام كثر، وكذلك كان يرعى أسرا زرع في أرواحهم السعادة، حيث كان يتابع الأسر المحتاجة، ويدعمها مباشرة أو يوفر لها من يدعمها
إنه ذلك الإنسان الذي يتصل به شخص وهو في العناية المركزة وفي وضع صحي حرج وفي ساعة متأخرة، يطلب منه المساعدة لزوجته الحامل باحدى المستشفيات، فيتواصل الدكتور صادق مع أحد الزملاء طالبا منه التدخل لحل مشكلة هذه المرأة، وتم حلها.
كلمة: لا استطيع، ليس بمقدروي، لا وجود لها في عالم إنسانيته.
عبر عنه أحدهم بحائط المبكى، أي الملاذ الذي يلتجىء إليه كل الناس يبثونه همومهم وما يشغل بالهم، وهو لا يكتف بالسماع، بل يسعى جاهدا لإيجاد حل لما يشغل بالهم
كان وفيا مع الجميع، وكان وفيا مع من رحلوا وأجلاها المرحوم سهل، حيث جمع أحبته عدة مرات بعد وفاته لقراءة القرآن على روحه الطاهرة، وكذلك تواصله مع أبناء الفقيد حتى وفاته.
عندما وقفت على تراب قبره، خاطبته حبيب ارواحنا صادق: لقد أودعنا في تراب قبرك أخوة عظيمة، وصداقة عالية، وصدقا وو فاءا وإخلاصا وإبداعا.
كان يشترك بمجلات علمية في اختصاص طب الأطفال، ويقدم تلك المجلات مجانا لزملائه وطلابه، حبا منه لنشر العلم والمعرفة.
كان الفقيد دائرة معارف متنقلة، وقد عمل على تحسين مستوى العمل الإكلينيكي والعلمي في قسم الأطفال بشكل خاص خلال حضوره ومشاركاته وإثراءاته العلمية.
كذلك أحدث تحسينا وتطويرا في مستوى الخدمات الصحية بمستشفى الولادة والأطفال عندما كان مديرا للخدمات الطبية وغيرها من المناصب التي أسندت إليه.
يقول د عبد الله الوباري رافقتُه في أول موعد له بعد اكتشاف المرض فأذهلني تماسكه وطمأنينة قلبه وثبات جنانه وبدل أن نحثه على الصبر وجدناه يطمئننا ويمسح على قلوبنا ولسان حاله يقول لاتقلقوا ولاتحزنوا.
لم أر مثله مقبلا على الموت باسما مطمئنا واثقا. صادق هذا علّم من حوله كيف يعيش وكيف يموت. عاش سعيدا ومضى شهيدا وخلد فقيدا.
أين ذلك الصوت الجميل المدوي بجماله في آذان وقلوب محبيه، بتلك النبرات الخاصة التي عشقنا سماعها.
ذلك الصوت الذي يحمل نحو الآخرين حبا، وتعليما، وإضاءة من إضاءات الحياة، وفكرة تفتح أبوابا أمام من طلبها.
أين تلك الابتسامة التي كانت كأشعة الفجر، تمحو ظلام اليأس، وتبعث نور الحياة في الأرواح.
حبيبي د صادق، لقد كنت في حياتك جسدا وروحا، أما جسدك فقد اكتنفه ذلك القبر، وأما روحك بمظهرها الساطع المتلألئ فهي ثروة لا زال محبوك ومن عرفوك ينعمون بها.
أيها النجم الذي تلألأ في سماء الحياة، والغصن الأزهر في حديقة الإنسانية، نسأل الله ان يحبوك من الجنان غرفها العالية، وأن يعيننا على فراقك الذي لا زالت جمرته متقدة مشتعلة.
ختاما أقول: يا أبا أحمد، ستبقى ما عشناه معك من ذّكريات مشرقة، قاموساً تتردّد عليه لمسات إنسانيتك وسيرتك المشرقة.
وإنا لله وإنا إليه راجعون.
