آخر تحديث: 24 / 11 / 2024م - 4:17 م

بلابل حلقت في دول المهجر

المهندس أمير الصالح *

يبدو أن مع تزايد وطول أمد الأزمات والحروب والاضطرابات وتردي الأوضاع الاقتصادية أو الأمنية وزيادة نسبة البطالة في بعض دول مناطق العالم الثالثة والمنكوبة، لا سيما بعض مناطق الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية، يزداد تناثر وهجرة أبناء تلك المناطق في أصقاع المعمورة حتى مع غزارة موارد بلدانهم الطبيعية الثمينة.

ولا نعلم إن كان أهل تلك الأوطان الأوفياء والمغتربون والمهاجرون يمدون بأسباب من الله - سبحانه وتعالى - وأسباب من شحذ هممهم وجهودهم لتتهيأ لهم الظروف في تمكين الصالحين والغيارى من أبناء تربة أوطانهم لإعادة لم شمل المغتربين إلى أوطانهم الأصلية، ولو بعد حين. أم أنه ستذهب الأيام، وتتصرم السنون، وتصبح أشعار وكلمات أناشيد عودتهم لأوطانهم ورواياتهم مجرد أمنيات وأغاني وأهازيج وقصائد يرددها بعض أدباء العرب في المهجر.

شخصيا عند كل جولة سفر لي في دول الإقليم ودول الخارج، أتأمل مطولا في زيادة حركة نزوح وغربة الأقليات العربية والإسلامية والأعراق الأخرى بين القارات لتدارس الأسباب والظروف والأحوال المعيشية والاقتصادية لتجمعات البشرية، وما آلت إليه تجاربهم بهدف العظة والاعتبار وقراءة المشهد هنا وهناك، وفهم ما كان وما هو كائن وما سيكون حالهم في واقعهم اليومي والمستقبل.

وكنت أستشرف نهاية المطاف لرحلة اغتراب أو هجرة أو تهجير بعضهم عبر مشاهدة الوثائقيات التلفزيونية، وعبر المعاينة بالعين المجردة للواقع، واستقراء الأبعاد السيسولوجية لبعض القوانين المتعارضة مع قيم المغترب. وكنت أتساءل عن معامل معدل مفاعل الرحلة الحياتية عند البعض وما هو أقوى أمل يمدون به أنفسهم في رحلة الاغتراب الطويلة لنجاة من تقلبات الدهر وصروفه. فلاحظت أن بعضهم يعقد أمله على استصدار قانون جديد من هنا أو هناك لمراعاة حالته الإنسانية، والبعض الآخر يأمل أن تتغير الأمور الاقتصادية أو الأمنية للأفضل في مسقط رأسه ليعود لها. وآخرون يعقدون الأمل بولادة مصلح أو بروزه ليصنع واقعاً أفضل لهم مما هم فيه. وآخرون اقتنعوا أن الأمل هو أن ينخرطوا في كل شيء يتعلق بالمجتمع الجديد، ويكونوا براغماتيين وحرقوا الجسور مع ماضيهم. وآخرون انخرطوا في تطرف وتشدد فضاعوا وأضاعوا.

أول جيل تغرب من المرشح أن يكون الدافع من أجل الحفاظ على النفس من أخطار تهدد حياته، أو من أجل استحصال لقمة عيش كريمة أو البحث عن تكافؤ الفرص، فشقي وكدح وتبهدل ونجح من نجح، وأخفق من أخفق. والجيل الثاني ولد في الغربة ينازع في داخله الانتماء بين هوية والديه وهوية وطنه الجديد، واهتم بعضهم بالتعليم. وبعض من الجيل الثالث، لا يعلم ما كان ولا يبدي اهتماماً لمعرفة ما حدث لأجداده. وإنما وجد طريقاً أمامه فمشى فيه وأراد أن يكون له استحقاق وحقوق كما لغيره.

هذه صورة وهناك صور عكس ذلك وصور متفرقة أخرى. حيث إن بعض أبناء الجيل الثالث في الغربة أبدع فيها إبداعاً يحق للمتابع أن يرفع لهم القبعة لأنهم نزعوا اعترافاً كاملاً من قبل أبناء الوطن الأصليين بعد جهود متظافرة ومتميزة. جملة اعتراضية: برامج لدولة ماليزيا لاحتضان الكفاءات من أصحاب الأدمغة المهاجرة برامج لافت للأنظار.

قصة كل إنسان يكتبها من خلال قراراته وأفعاله وسلوكه ومواقفه. وكلما تقدم به العمر جف قلمه، وانطوت صفحات كتاب هو سيأتي من بعده من يتدارس ما كتبه من أفعال وأقوال ومواقف. أعاننا الله وإياكم على تقادم أعمارنا. والأغلب من الناس مع كبر سنه يتحول من فاعل إلى متفرج على كراسي مدرج الحياة. وقد عز علي كثيرا رؤية مشهد بعض كبار السن من المغتربين وهم في وحدة قاتلة وعزلة مخيفة وندب حظ. تحديات اختلاف العرق واللغة واللون والثقافة والدين ومستوى الدخل المالي قد لا يلتفت إليها جيل شباب المغتربين والمهاجرين والمهجرين، ولكن حتما يعيها كل من تلمسها بعد طول عناء ومكابدة وكفاح مرير.

ختاما، عزيزي المغترب العربي المثابر على حفظ كرامته وهويته وعقائده ونبل أخلاقه وطيب فطرته، يعز علي وعلى كل محب لأبناء قوميته وأمته، ما حدث لك، وأدى بك إلى طرق أبواب أوطان أخرى.

ويعز علينا أن تلكم الأسباب المسببة لذلك النزيف البشري والأدمغة الناهضة ما زالت في وطنك الأم. ويعز علينا جميعا أن ننقص الأمة والوطن العربي بفراق إنسان مبدع ومحترم مثلك عن المجتمع العربي. ويعز علينا أن تُهدر الطاقات، وتستنزف الأدمغة الفاعلة برحيل بعض أهل الفكر من العرب في الدول الساخنة. ويعز علينا أن نسمع ونشاهد عبر الشاشة الفضية ما يُسن من قوانين في بعض الدول الأجنبية بتجريم من ينكر منكر الشذوذ في المدارس والشوارع، ويعاقب من يشدد في جنبات روح أطفاله على الالتزام بالفطرة السليمة.

كم كان سيكون جميل وجودكم أبناء القومية العربية وجهودكم وبناءكم بين من أحبوكم وأحببتموهم. ونتضرع إلى الله الواحد الأحد أن يخفف على كل مغترب ومُهجر ومهاجر، وعلى أفراد أسرته أوجاع الغربة، وأن تؤول أمورهم إلى خير. وإن كنا بعيدين جغرافيا عنكم، إلا أننا نشعر بأن بعض أهل الانحراف والشذوذ والكراهية من أمامكم والبحر من خلفكم. فأعانكم الله على جميل صبركم وصمودكم، وسدد الله ما تتخذونه من قرارات رزينة وعاقلة وسلمية وقانونية والتعاضد مع أهل الغيرة والحشمة من أهل البلاد هنالك.