آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

إنه زمن الليبرالية المتوحشة..!

ميرزا الخويلدي * صحيفة الشرق الأوسط

«الزمن كحلم قديم غامض» يحمل الإنسان عبء اختراقه، كما يقول الكاتب الياباني هاروكي موراكامي، في رواية «كافكا على الشاطئ»، فأنت «تخاف من الخيال، وتخاف أكثر من الأحلام... يمكنك وأنت مستيقظ أن تقمع الخيال... ولكن الأحلام لا يمكنك قمعها»..

تبحر هذه الرواية في عوالم الخيال والغرابة والأساطير، وبالكاد تمر سريعاً على عالم جديد لم تألفه، هو الهوية الجنسية من خلال بطل الرواية الفتى كافكا الذي فرّ من أهله في عمر ال15 ليواجه معاناة الحياة وعذاباتها ولغز مقتل أبيه، ثم يلتقي بشابٍ يعمل أمين مكتبة يصادف أنه غير محدد الهوية الجنسية، وهنا تمرّ الرواية مروراً لا يكاد يُحّسُ، لتكمل مسيرتها... هذا الوجود الإنساني، مهما اختلفت صيغه كان موجوداً منذ عمر البشرية، فلماذا أصبح اليوم هو القضية؟!

بدأت مسيرة الإنسان قبل 300 ألف سنة؛ الإنسان بوصفه ذاتاً عاقلة تمتلك الإرادة والوعي والحرية وتلتزم بالقيم الأخلاقية وتسعى نحو السعادة. لم يحشره أحدٌ في مواجهة الأسئلة التي تصفعه اليوم أينما قلّب وجهه. أسئلة من قبيل: من هو الإنسان؟ ما هي هويته الجندرية، والجنسية؟ هل يولد الإنسان بهوية: ذكر أم أنثى، أم يتشكل فيما بعد؟

لا أحد كان يحلم بأن البشرية سوف تعيد اختراع العجلة، تتحدث عن الذكاء الاصطناعي، ثم تبدأ في إثارة الأسئلة الباهتة الساذجة، وهناك من يمسك العصا لفرض آرائه وقمع المخالفين..

في القرن الواحد والعشرين، نكتشف فجأة أن علينا أن نفصل بين الحقيقة البيولوجية والثقافية، يمكنك أن تكون ذكراً وتختار هوية مخالفة، ما دام هناك من يسعى للقول إن «النوع الاجتماعي» يخضع للتغيُّر التاريخي، هذا المدخل الذي يهدّ كل منظومة القيم التي تحكم الفرد والأسرة والمجتمع.

كانت البداية في الحديث عن حقّ الفرد في الاختيار، ثم تطورت لحقه في تحديد هويته، وانتهت إلى تكوين شبه نظام تسلطي استبدادي شمولي يفرض نظاماً ثقافياً عابراً لحدود الأوطان والأمم والأديان والثقافات والأسر، ويفرض قسراً وبالقوة على العالم الانخراط في النظام الثقافي الجديد، ومصيبة هذا النظام أن غالبية العالم لم يشاركوا في صياغته ولم يوافقوا عليه، وأنه مسنود بالقوة وطغيان النموذج.

حين كنا نقرأ الروايات الأدبية، كنا نفتش عن صورة المستقبل، حتى في روايات الخيال العلمي لم يكن كثيرون يجرؤون على اقتحام الهوية البشرية، ربما تنبأوا بالإنسان الخارق والكائن الهجين، كما تنبأوا بالكوارث والحروب وغزو الفضاء. رواية «باريس في القرن العشرين» «كتبت عام 1863م وصدرت عام 1994»، تناول مؤلفها جول فيرن هيمنة التكنولوجيا على الثقافة، قال إن البشر في المستقبل سيبتكرون بريداً إلكترونياً للتواصل، وحين جنح في التفكير توصل إلى أن بعض هؤلاء البشر «سيضعون أجهزة إنذار ضد السرقة في كل منزل». مثله مثل الكاتب البريطاني إي إم فورستر في روايته «الآلة تتوقف» التي أصدرها 1909، وتخيّل فيها سيطرة التواصل الإلكتروني على البشر في المستقبل.

وثمة كاتبة هندية اسمها رقية سخوات حسين، كتبت في عام 1905 رواية باسم «حلم السلطانة»، تخيلت أن هناك مدينة للنساء اسمها «ليدي لاند» تخرج فيها النساء للعمل بينما يبقى الرجال في البيت يعتنون بالأطفال.

نعم، في رواية «الوقوف على زنجبار» التي صدرت عام 1968 تنبأ خلالها الكاتب الإنجليزي جون برانر لشكل الحياة في عام 2010، وقال إن العالم سيكفّ عن محاربة المثليين وسيعترف بأحقيتهم في الزواج.

من يقف خلف هذا التسلط الثقافي اليوم، هو شكل جديد من الليبرالية المتوحشة، تحولت الليبراليّة من حيادها أمام التحولات الاجتماعية والثقافية إلى سلطة كاسحة للتدخل والسيطرة والتوجيه والسيادة.

فالليبرالية التي فرضت نفسها بصفتها عقيدة الحرية الفردية، والتسامح والحق في الملكية ومواجهة الاستبداد، والدعوة للمجتمع المدني؛ اصطدمت مع الأديان وعملت على التحرر من النظام الأخلاقي، لكنها في مرحلة لاحقة راحت تحرض على هدمه وإزالته. تقول الباحثة الفرنسية كاترين أودار في كتابها الضخم «ما الليبرالية؟ الأخلاق، السياسة، المجتمع»: «إن الإسلام ينادي بخضوع الفرد للجماعة، وهذا لا يتطابق مع الليبرالية»، وترى أن «على الديانات أن تقبل بأن تتغير عند اتصالها بالمجتمعات الديمقراطية، وأن تصبح بدورها أكثر ليبرالية».