الحوكمة ودورها
شاعَ في الآونة الأخيرة وتحديدًا قبل عشرينَ سنةً مضتْ مصطلح ”حوكمة“ «governance» والذي يرتكز هذا المصطلح فنيًا على ثلاثة أمور هي؛ الشفافية «Transparency»، والعدالة «Justice»، والنزاهة «integrity». ويكون التقييم في الحوكمة خاضعًا لمعايير ثلاثة هي الامتثال والالتزام «Compliance and commitment»، والشفافية والافصاح «Transparency and disclosure»، والسلامة المالية «Financial safety». وأصبحت الحوكمة معيارًا يُحكم من خلالها على مدى الجاهزية وجودة المخرجات في مؤسسات القطاع العام والخاص، وبعبارة أخرى تعتبر الحوكمة من الوسائل المهمة لتحقيق الجودة نظرا لما تلعبه الحوكمة في انتظام واتساق العمل المؤسسي على كافة الصعد، فقد أصبحت من متطلبات وشروط الدعم الحكومي لتلك القطاعات، وهذا ما يتماشى مع الهدي النبوي الكريم الذي يحث على تجويد العمل واتقانه، فقد قال النبي محمد ﷺ: [إِنّ اللَّهَ تَعَالى يُحِبّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلاً أَنْ يُتْقِنَهُ].
فالحوكمة هي عملية تهدف لتحقيق الوعي، ومساعدة العاملين في القطاعين العام والخاص على فهم القواعد المنظمة للعمل والالتزام بها لتحقيق أقصى استفادة للوصول إلى تحقيق أهداف المؤسسة. فهو النظام الذي يتم من خلاله إدارة المؤسسة والتحكم في أعمالها، ومنع الفساد، كما أنها مجموعة من القواعد تقوم على الربط بين القائمين على إدارة الشركات، ومجلس الإدارة، والمساهمين، وأصحاب المصالح، وغيرهم في تلك المؤسسة.
وأصل هذه الكلمة جاء مشتقًا مِنْ الفعل اليوناني «κυβερνάω، kubernáo» والذي يعني توجيه، وقد استخدمه أفلاطون لأول مرة على سبيل المجاز. انتقلت بعدها هذه الكلمة إلى اللاتينية ومن ثم إلى لغات أخرى. واستخدمت في اللغة الإنجليزية للتعبير عن نوع محدد من حكم الدولة ويمكن إرجاعها إلى إنجلترا الحديثة عندما ظهر مصطلح «حكم العالم». كما تم استخدامها بواسطة كتاب ومؤرخين آخرين فيما بعد، أما الآن فقد استخدام مصطلح الحوكمة بمعناه الأوسع والأشمل ليطلع على أنشطة أوسع لمجموعة من المؤسسات العامة والخاصة، وأصبح متداولًا بشكل واسع في مطلع التسعينات 1990 م بعدما تمت إعادة صياغته بواسطة علماء الاقتصاد والعلوم السياسية، وتم نشره بصورة أوسع بواسطة مؤسسات كبرى مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومنذ ذلك الحين بدأ المصطلح يأخذ صدًا واسعًا وانتشارًا أكبر في الدوريات والنشرات العلمية والتقارير.، ومما يجدر الإشارة له في هذا المقام أنه قد بدأ العمل بالحوكمة في المملكة العربية السعودية منذ العام 2006 م.
من هنا تبرز أهمية عملية الحوكمة في أي منظومة بغض النظر عن حجمها سواءً كانت على مستوى فرد أو على مستوى البشرية جمعاء، ويمكن أن توظف الحوكمة لأي غرض كان خيرًا أو شرًا، ومن أجل الربح أو لا. والغرض المعقول للحوكمة ربما يهدف إلى التأكيد أحيانًا نيابةً عن الآخرين، بأن المنظومة تنتج نمطًا مجديًا من النتائج الجيدة مع تجنب النمط غير المرغوب فيه في الظروف السيئة. وعندما ينظر للحوكمة من هذه الزاوية، يمكن للمرء أن يطبق هذا المفهوم على الشركات العامة، وعلى المنظمات غير الهادفة للربح، وعلى المنظمات غير الحكومية، وعلى الشركات الخاصة، وغيرها من الجمعيات، وعلى فرق العمل، وعلى أي عدد من البشر والذين يعملون في بعض الأنشطة الهادفة.
وتمتاز الحوكمة الناجحة بلعبها دور المعزز في توزيع الصلاحيات وتحديد المسؤوليات والمحاسبة، ومعرفة حدود اتخاذ القرارات على كل صعيد ولكل دور، فهي العلاج لمن يتخطى الصلاحيات، وكذلك لمن لا يستخدم صلاحياته، والتطبيق الصحيح الذي يوصل إلى الشفافية والوضوح ويمنع ”المحسوبية أو الواسطة“ فيكون التعامل بشكل عادل مع الجميع وفقًا لمصلحة المؤسسة وليس الأفراد، ويحد من تضارب المصالح ويعزز أخلاقيات العمل. كل هذا قد يطلق عليه الحوكمة الصحيحة التي تسرّع في الحصول على النتائج وتصحيح المسار والأخطاء، فليس الهدف من المحاسبة قطع الأعناق، وإنما استخلاص الدروس المستفادة ومنع تكرار الأخطاء والرقي بالنظام والإجراءات والخبرات والمهارات إلى مكان نصل عنده إلى تحقيق المنفعة والأهداف والنمو والتركيز على الخدمة الاجتماعية والاستدامة، فضلا عن زيادة الخدمات وتقليص النفقات وبالتالي زيادة الأرباح.
هناك عدة أنواع من الحوكمة، مِنْهَا الحوكمة الالكترونية التي لها تأثير كبير، وغير مباشر على العلاقات بين الحكومات، والمواطنين مما يعزز مشاركة المواطنين. حتى يتمكنوا من فهم حقوقهم وواجباتهم بشكل أفضل، وتطبيقها بشكل أفضل.
وهناك ما يسمى بحوكمة الشركات التي تتعلق بمجموعة من القيم، والمبادئ التي تسهل التعامل، والتوازن بين الأهداف المالية، والاقتصادية، والأهداف الاجتماعية، والأهداف الفردية، والمشتركة.
وهناك ما يُدعى بالحوكمة البيئية وهي الحوكمة المتعلقة بالموارد الطبيعية، وتكون عبارة عن القواعد التي تقوم بتنظيم الممارسات، والمؤسسات التي تساهم في حماية البيئة، والحفاظ على مواردها، واستغلالها الاستغلال الأمثل، تحت مظلة القيم، والمعايير التي تنظم القواعد بين الأفراد.
ومن الأمثلة على مثل هذا النوع من الحوكمة؛ مكافحة تصحر الأراضي، والحفاظ على الموارد البحرية، والساحلية، ومكافحة تغير المناخ، وايضًا الحفاظ على هذه الموارد، وإدارتها بالشكل الأخلاقي المنضبط.
هناك أيضًا ما يسمى بالحوكمة العامة وهي التفاعل بين الحكومة، والجهات التنفيذية في أي مجال مثل المجال الاجتماعي، وصنع القرار في الاتجاه السياسي.
فالحوكمة العامة تقوم بخدمة المواطنين، من أجل الحفاظ على حدود أراضي الدولة، والتأمين الفردي، وسياسة القانون، وتقديم الخدمات، مثل التعليم، والصحة، والرعاية الصحية، وتأمين الغذاء لجميع الأفراد في الدولة.
وأما فيما يختص بالحوكمة العالمية فهي مجموع المؤسسات، والعلاقات، والعمليات الرسمية وغير الرسمية بين الدول، والأسواق، والمواطنين، والأسواق المالية، سواء حكومية، أو غير حكومية.
وهناك ما يدعى بالحوكمة التشاركية وهي دمج المواطنين في اتخاذ القرارات كمجالس الشورى، والمشاركة الفعالة من خلالها، حيث يجب أن يكون المواطنين أكثر تأثيرًا في صنع القرارات.
وتشمل الحوكمة الرشيدة الاحترام الكامل للمشاركة الفعالة، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والعمليات الخاضعة، من أجل المشاركة، والقيم التي تعزّز المسؤولية، والاستدامة، والتسامح، والتضامن، ومعرفة المعلومات، والمفاهيم التي تساعد الناس على التمكين.
وتبرز فوائد الحوكمة في كونها تمثل الهياكل، والعمليات المصممة للمساءلة، والشفافية، وسيادة القانون، والعدل والمعايير في الدولة، وكذلك المشاركة الواسعة على كافة النظم.
فالحوكمة نمط دقيق جدًا، حيث إنها تشرف على الجهات الخدمية وغيرها، مثل برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والبنك الدولي، وأيضًا لجان المساعدة الإنمائية التابعة لمنظمة التعاون الدولي، فهي علاقات قوة، وعلاقات رسمية، وغير رسمية من أجل رسم، وصياغة السياسات، وتخصيص الموارد، وعمليات صنع القرارات.
كما أنها إدارة الهياكل، والمنظومات، والأدوات التي تدير الموارد المادية، والموارد البشرية، وايضا الموارد المالية، من أجل تحقيق نتائج عادلة، وملموسة سواء كان على نطاق أفراد أو جماعات ضمن نطاق مؤسسي.