تأمّلات أخّاذة في نفرة سانحات الظباء
1. تُعدُّ فَصِيلةُ الظّباءِ السائمةِ، مِن أنعمِ الحيواناتِ البريةِ، والأكثر رشاقة، والألطف أناقة… فهي، بعظيمِ سَحنتِها الدهماءِ المُتناسقةِ؛ وبارزِ فروعِ قُرونِها الطويلةِ المُلتويةِ المُشابكةِ، تخطو زَهوًا برشاقةٍ فَائقةٍ؛ وتتقدّم ابتهاجًا بعَطردةٍ وَاثقةٍ، بين سِياقانِ الأشجارِ الطويلةِ، ذات أيدٍ مُمتدّةٍ مِن الأغصانِ الغضّةِ المُتصافحةِ، نَاشرةً واسعَ طياتٍ مِن مُدُودِ الظلالِ الوارِفة؛ ومُظهِرةً أبرزَ مَنظرٍ آسرٍ أخّاذٍ، يَغمرُ - ببَهاءٍ ورُوَاءٍ - أفرادَ قطيعِ كَوكَبةِ الظباءِ البهيةِ المُتآلفةِ، بتناغمٍ جَمٍ، وانسجامٍ غَمرٍ؛ لِيبدُو مَشهدُ زُمرةِ الظباءِ السائمةِ،
في رَبيعِ انطلاقتِها النُّورانية البِكر، في وسَط رائقِ بيئتِها الطبيعيةِ الساحِرةِ، بأَجملِ وأَكملِ مَنظورِ مَشهدِ طلّةٍ بانُوراميةٍ هَادئةٍ؛ وأَنعمِ مَظهرِ هَيأةٍ مُترابطةٍ مُتهاديةٍ، تُراقِبها مُصادفةً - باهتمامٍ وانتظامٍ - أحداقُ أعين الناظرين إِعْجابًا؛ وتستلطِفها أعناقُهم المُشرئبة حُسنًا؛ وتطرَب لَها آذانُهم الصاخِية تَجاوبًا، مع أرقّ تغارِيدِ؛ وأسمَى أعراسِ جُموعِ أَسرابِ الأطيارِ الجَذلى الوَلهى، المُتجمّعةِ احتفاءً، مِن فوق رُؤوسِها، وكأنّ الظباءَ - السارِحةَ المارِحةَ - بوَقارِ غَطرسةِ مِشيتِها المَحمودَةِ المُعتادَةِ؛ وفَيضِ سَعادِتها المحبُورَةِ المُثلى، مُستبشرةٌ مُسترخيةٌ في أفخمِ قاعةِ تكريمٍ؛ ومُتكئةٌ مُستريحةٌ في أعظمِ مُلتقى مَحفلِ إجلالٍ...!
2. وكما هُو الحالُ، في مُقتضَى سُنّة الحياةِ المُتغّيرةِ، بوُرودِ صُرِوفها المُقلِقةِ؛ والمُباغِتةِ بنكبَاتها المُنهِكةِ، حَالًا بعدَ حالٍ؛ لتتنامَى بَياتًا، في مَراحِلها ذُروةُ مَؤشراتِ الخوفِ اللّحظيّ سَاعةً؛ لتعجَل مَراكزُ الخلايا الدّماغِية الصمّاء للظباءِ المُستنفرةِ؛ لِتَتلقّفها مَراكزُ المُستقبِلاتِ العَصبِيةِ، بإفراز أَمصالِ عُصاراتِ ”كِيماويّاتِها“ النشطة، بلفِيفِ مَعيةِ نمطِ شّفراتِها النابضةِ، إلى أدقّ خَلايا ومَراكز شكبةِ مَنظومةِ أعصابِها ”الفِسيولُوجية“ الحِسّية؛ مَشفوعةً بمَظاهرِ الذّعرِ؛ ومُمتزجةً بمَشاعرِ التوتّر؛ لتهرع بنفرةِ فرائصِها المُرتعدة؛ وتفرّ بقائم هَياجِها، مِن شاخصِ مَكانِها الراهِن؛ لتنجُو بنفسِها المُنهكةِ؛ وتَستَرِدّ أنفاسِها الخائرةِ، مِن مُحقّقِ هَلاكٍ مُحتملٍ؛ وتفلتُ مرّةً، مِن قَبضةِ احتضارٍ مُرتقبٍ… فهَا هُو الصياد المُتوارِي لَحظةً، بمُنحنَى قَوسِهِ، وحِدّةِ سَهمِهِ المارِق الجارِح، وقد تسلّل خِلسةً، خلفَ سِتارَ وَكرٍ كَثيفٍ مِن الأشجارِ الطويلةِ، شَاهرًا آلةَ قوسِهِ؛ ومُستعرضًا سَائر عَضلاتهِ المَفتولةِ؛ ليصوّبَ رَميةً سَريعةً؛ بِسهمٍ مُسدّدٍ إلى جَسدِ أحدِ الظباءِ اللّاهيةِ في متّسعِ مَرعاهَا الطبيعي النضِر، حَول حَوافّ بُركةٍ وَاسعةٍ مِن المياهِ المُتجمّعةِ…!
3. هَذا، ولم يَكن الصيادُ المخاتِلُ مَصدرَ تَهديدٍ أَسمى؛ أو منبعَ وَعيدٍ أَعلى، تخافه جَميع أفراد كَوكبةُ قطيع الظباء برمّتها، المُنطلقة بحريةٍ وأمانٍ، في أحراشِ، وأحراجِ، وآجام لُجّة الغابةِ الواسعةِ؛ بل هُناك صفٌ مُتوحّشٌ مِن أشرسِ، وأعنفِ، وأقوَى الحيواناتِ المُهاجمةِ المُتربّصةِ المُفترسةِ: كالأُسود والنّمور، والفُهود… وقد استأنسوا جَميعهم، وتتبّعوا باحترافٍ عَارفٍ، واستِكشافٍ بَارعٍ مَواطِئَ أقدامَ قُطعان الظباء المُسالِمة، ومَواردَ وُجودِ الأبقارِ الوحشيةِ الهائِمةِ، ومثلها الأَحْمِرَةِ الوحشية، في مُنحدرِ بُطونِ السهولِ؛ الخِصبةِ الواسعةِ… لَغرضِ إِشباعِ وإِرواءِ نهمِ الإفتراس الجَائِر؛ وإنفاذ دَيدنِ شَريعةِ الغاب القَاهِر، دُون رَحمةٍ تُذكر؛ أو رَأفةٍ بشَوادنِها الضعيفةِ، وأَرشَائها الصغيرة؛ أو أدنى شَفقةٍ مُواسيةٍ بالمُسنّ الكبير مِنها؛ أو مَسحةِ حُنُوّ مُماثلةٍ بالحَاملِ المُثقلةِ، والمَشلولِ المَعلولِ…!
4. وبَعدَ أنً تَقضِي وتُشبِع السِّباعُ الضاريةُ السِّغابُ وَطرَها، بافتراسَ الظبي المَخنوقِ، المنهُوكِ القِوَى… تتوارَد الأَكَلةُ على الجثّةِ الهَامدةِ، مِن فئاتِ مَجموعاتِ السّباع الأقل ضَراوة، كالضّباعِ والذّئابِ… لتنهش مّا تبقّى مِن ناعمِ لحمِ الفريسةِ… تتبعها لِحاقًا هَجمة الطيور الجارِحة: كالنّسورِ، والصّقورِ، والغِربانِ… وبعد أنْ تنالَ تلك الطيورُ الآكِلةُ للّحومِ، مَا يَسدّ رَمقَها، تأتِي تِباعًا، هَجمةُ جُموعِ الحشراتِ الزاحفةِ والطائرةِ؛ وحُشودِ الديدانِ المُتقاتلةِ؛ لتُفتّت مَا تَبقّى مِن مُخلّفات جَسدِ الفريسةِ؛ لتَجهِز عليها، عن بكرةِ أبيها، حتّى أحبالِ النّخاع…!
5. وهُناك، في أوساطِ الغابةِ الكثيفةِ، وأطرافِ الواحةِ القريبةِ، يَسكُن صِنفٌ وَديعٌ مِن الحيواناتِ الرشيقةِ اللّطيفةِ، مَا يُشبهُ الضباءِ، شَكلًا وسَحنةً… إنَّها قطعان الغزلان البريةِ الهادئةِ الوديعةِ، التي طالَما زحفَ الأمراءُ، وشدّ إليها فرسانُ مُحبّي هِوايةِ الصيدِ؛ ليستمتِعوا بحِرفةِ فَنّ الصيدِ؛ ويَنالُوا مُتعةَ المُطاردةِ الحرّةِ؛ ليتفاخَروا لَاحقًا، بشِواءِ وطَبخِ، وأَكلِ لُحومِها اللذيذةِ… ويتغنّوا - بعدَ بُلوغِ ذائقةِ الشبعِ - رَدَحًا بحُسنِ سَانحاتِ طلعتِها، في أشعارِهم؛ ويَتباهوا بكَمالِ رَشاقتِها، في أسْفارِهم؛ ويُعظّموا خِفّةِ حَركتِها، في مَجالِسهِم؛ ويُكبِروا استِدارةِ دِقّةِ خُصرِها الضامِر، وسِحرَ جَمالِ عِينَيها الكَحلَاوَين الساحِرتين، ومِشيتها الهُوينَى، في التغزّل العُذري بناعمِ شَخصِ المَعشُوقةِ…!
6. وفِي عَرْصاتِ رُبوعِ العربِ؛ وفي أَوسعِ جَنباتِ سُوحِ مَلتقى مَضاربِهم المِضيافِ، في أطراف الصحراء الساحِرة، يَحلُو نظمُ الشعرِ العربي الأَصِيل، الذي لَا تَخلُو دِيباجتُه مِن ذَائقةِ الإنشادِ الأخّاذ؛ ولَا يندُرُ أسلُوبه الشجِي مِن مَزجِ أنفاسِ التغنّي المُحزِن بأطرافِ الدّيارِ؛ وبالأخَصّ، مَن يَقطُنها، مِن شَخصِ الحبيبِ ”المَعشوقِ“ الذي استحوَذ حُبّه الهائم صَبابةً، على جُلّ سُويداءِ الفؤاد؛ وتَغلغَل حَقن جُلّ ”مَصلُه“ السارِي امتزاجًا، في طُولِ شَرايين الجسد، وسَائرِ تلافِيفِ الدّماغِ…!
7. ولَا يفوتَني بوحُ الإشَادةِ الأَدبيةِ، بذكر بعضٍ مِمّا سطّرَهُ عُشّاقِ ”الحُبِّ العُذرِي“ الوالِهين؛ وجَادت به سَوانح قَرائحهِم، مِن رائعِ وذائعِ شعرٍ رَقيقٍ، باحَت به قُلوبُهم المُستَهامةِ، قبل أنْ تُحرّكهُ ألسنتهم؛ وتُهمِس بنسجِهِ شِفاههِم؛ وقد أتقنُوا وأحكمُوا فنّ الاستعارةِ الجَماليةِ مٍن مَزايا ومَحاسِن الظباء والغزلان المُميّزةِ… فكانوا مَصدرَ إلهامٍ للشعراءِ، ودَليلَهم الباقِي في الجمالِ، والرشاقةِ، والخفةِ، واللّطفِ… «وقد رمُوهُم استِلطافًا، بأسماءٍ ومَدلولاتٍ شتّى: كالرّيم، والمَها، والرّشَا، والعِفرِي… فهذا العاشقُ المتيّمُ الولهانُ، قيس بن المُلوّح ”مجنونُ ليلى“ ينشدُ مْتيمًا في حُبّ مَعشوقتهِ ليلى العامِريةِ: رَأيتُ غَزالًا يَرتَعِي بَينَ رَوضةٍ… فَقلتُ أَرَى لَيلَى تَرى أَكلَنا ظُهرَا
فيا ظَبيُ كُلْ رَغدًا هَنِيئًا ولَا تَخَفْ… فإنّكَ لِي جارٌ ولَا تَرهَبَ الدّهرَا
وقال عليُ بن الجَهَم: عُيونُ المَهَا بين الرّصَافةِ والجِسرِ… جَلَبنَ الهوَى مَن حِيثُ أَدرِي ولَا أَدرِي» *
8. وامتدادًا لروابطِ الألفةِ الوَثِيقةِ، وأحْماءِ أواصِر العِشرةِ المُعاشةِ، بين حياةِ مَعشرِ الأجداد الأَماجِد؛ وخُصوصِيةِ وِجدانِ وقَريحةِ الشاعرِ العربِي المُلهَم، وَسط لفيفِ قُطعانِ الظباءِ والغزلانِ المُلهِمةِ؛ فقد أدركت واهتمّت الحُكوماتُ المُعاصِرةِ في البلادِ العربية، ومِنها حكومةُ المملكة العربية السعودية، بحِمايةِ ورِعايةِ مَا تبقّى مِن قطعانِ الظباءِ والغزلانِ؛ بتربيتِها وتكاثُرِها النموذجي في داخلِ المحمياتِ الطبيعيةِ؛ وكذلك سَنّ الأنظِمةِ، والتشرِيعاتِ، والقوانِينِ الصارِمةِ، ضِدّ الصيدِ الجَائرِ؛ والمَساسِ العَاسفِ لِحياةِ وَاحدةٍ مِن مُفرداتِ سَانحاتِ بيئةِ الحياةِ الفِطريةِ، في رُبُوعِ بلادِنا العزيزةِ، جُملَةً وتَفصِيلًا…!