الإمام الجواد «عليه السّلام»... رعاية الموهوبين
إن حياة الإمام محمد بن علي الجواد حياة تشرق نوراً، وهي مفخرة من مفاخر بيت أهل النبوة والرسالة، ففي مثل هذا العمر الذي لم يتجاوز التاسعة ينبري الإمام ليتولى أعلى قيادة في الأمة، ليكون المرجعية الأعلى في الأمة.
وحين ندرس هذه السيرة العطرة فإننا ندرسها بروح وبعمق لنستلهم منها أهم الدروس والعبر التي تفيدنا في حياتنا العملية، ولعل عنوان «الموهبة، العبقرية، المعجزة» يعد من العناوين التي تميز سيرة الإمام الجواد ، ونذكر هنا بعض المواقف التي تبين لنا تلك العبقرية التي كان يتحلى بها الإمام :
يقول بعض الرواة: لما مات أبو الحسن الرضا حججنا فدخلنا على أبي جعفر وقد حضر من الشيعة من كل بلد لينظروا إلى أبي جعفر فدخل عمه عبد الله بن موسى وكان شيخاً كبيراً نبيلاً، عليه ثياب خشنة وبين عينيه سجادة.
فجلس وخرج أبو جعفر من الحجرة وعليه قميص قصب ورداء قصب ونعل خوص بيضاء، فقام عبد الله - عمه - واستقبله وقبَّل بين عينيه وقامت الشيعة، وقعد أبو جعفر على كرسي ونظر الناس بعضهم إلى بعض تحيراً لصغر سنه.
فانتدب رجل من القوم فقال لعمه: أصلحك الله ما تقول في رجل أتى بهيمة. فقال تقطع يمينه ويقام عليه الحد.
فغضب أبو جعفر وقال: يا عم إتق الله - إتق الله - إنه لعظيم أن تقف يوم القيامة بين يدي الله عز وجل لما أفتيت الناس بما لا تعلم، فقال له عمه: يا سيدي أليس قال هذا أبوك ؟
فقال أبو جعفر : إنما سُئِل أبي عن رجل نبش قبر امرأة فنكحها، فقال أبي: تقطع يمينه للنبش ويضرب حد الزنا، فإن حرمة الميِّتة كحرمة الحية فقال: صدقت يا سيدي أنا أستغفر الله، فتعجب الناس فقالوا له: يا سيدنا أتأذن أن نسألك؟
فقال:“نعم، فسألوه في مجلس عن ثلاثين ألف مسألة فأجابهم فيها وله تسع سنين”[1] .
روى محمد بن الحسن بن عمارة قال: كنت عند علي بن جعفر جالساً بالمدينة، وكنت أقمت عنده سنتين أكتب ما سمع من أخيه يعني الإمام الكاظم إذ دخل أبو جعفر محمد بن علي الرضا مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله، فوثب علي بن جعفر بلا حذاء ولا رداء، فقبّل يده وعظّمه، والتفت إليه الإمام الجواد قائلاً: «اجلس يا عَم، رحمك الله».
وانحنى علي بن جعفر بكل خضوع قائلاً: يا سيدي، كيف أجلس وأنت قائم؟!
ولما انصرف الإمام الجواد ، رجع علي بن جعفر إلى أصحابه فأقبلوا عليه يوبّخونه على تعظيمه للإمام مع حداثة سِنِّه قائلين له: أنتَ عَمُّ أبيه، وأنت تفعل به هذا الفعل؟!!
فأجابهم علي بن جعفر جواب المؤمن بِرَبِّه ودينه، والعارف بمنزلة الإمامة قائلاً: اسكتوا، إذا كان الله وقبض على لحيته لم يؤهل هذه الشيبة للإمامة وأهَّل هذا الفتى، ووضعه حيث وضعه، نعوذ بالله ممّا تقولون، بل أنا عبد له [2] .
وهناك حوادث وقصص كثيرة تبين لنا تلك المكانة العلمية العالية التي كان يتميز بها هذا الإمام الجواد وهو في صغر سنه.
وهنا أود أن استخلص أهم العبر من هاتين الحادثين:
1 / إن المجتمعات تتمايز في تنافسها، ليس فقط بما حباها الله من ثروات طبيعية أو مصادر طاقة أو أسواق كبيرة، بل وجدت هذه المجتمعات أن العنصر المرجح في هذا التنافس هو قدرة هذه الدول فيما يبدعه مواطنها ويضيفه إلى هذه الثروات الطبيعية.
2/ لذلك لابد من محاولة اكتشاف المواهب في المجتمع، حيث أن مجتمعاتنا تزخر بالمواهب والمعاجز ممن هم في سن مبكر ولهم الكفاءات التي يعجز عنها الكبار، وهذه الفئة من الموهوبين بحاجة إلى اكتشاف أولاً، ثم إلى توجيه ورعاية، وتمهيد السبل أمامهم لتنمية مواهبهم وتقويتها، ويمكن ذلك عبر إنشاء المراكز المختصة، كمركز رعاية الموهوبين أو المدارس الخاصة التي تكفل المحافظة عليهم وتسهم في بناء وتنمية هذه المواهب.
3/ إن احتواء وتنمية ورعاية الموهوبين يُعد أمراً إيجابياً في طريق التقدم الاجتماعي، ذلك أن رعاية الموهوبين توفر للمجتمع نبعاً دفاقاً من الموارد البشرية المتميزة القادرة على التحدي والعطاء، ومن ثم يكون المردود كبيراً نظراً إلى ما لدى هذه الفئة من إدراك وسعة أفق وإبداع، تمكنهم من الإسهام الفعال في حل المشكلات المختلفة التي تواجه المجتمع.
4/ السماح لهذه المواهب والكفاءات بالمشاركة الفعالة في المؤتمرات والندوات واللقاءات الدولية والسماح لهم بالمشاركة بما يبتكرونه من ابتكارات ومخترعات. ووضع المكافآت التشجيعية والحوافز والجوائز القيمة لهؤلاء الموهوبين.