القراءة والتغول الرقمي
يصطدم حديثنا المتتالي عن القراءة في زمننا هذا بعقبة كأداء عصية على التجاوز؛ وهي عقبة التغول الرقمي. ويعني هذا التغول فيما يعنيه تسلل الأدوات والأجهزة الرقمية إلى مختلف جوانب حياتنا دون استثناء أو استئذان، حتى أصبحت لازمة واجبة علينا لا نستطيع التحرر منها، بل لا يمكن إنجاز أمورنا ومعاملاتنا إلا بها. تبدأ من ساعة المنبه المرتبطة بجهازنا الذكي ولا تنتهي بالاطمئنان على أمن مسكننا من خلال متابعة شاشات مراقبته قبل الخلود للنوم، مرورًا بسلسلة طويلة من الخطوات والإجراءات الرقمية التي تكسو حياتنا العملية والشخصية، مثل الأكل وسعراته الحرارية، والمشي والرياضة، ومتابعة تنفيذ بعض أمور العمل، والتي يفترض أنها تسهل إنجاز مفردات حياتنا اليومية. ورغم أنها بالفعل تقوم بذلك، فإن المشكلة تكمن فيما يحصل من تكبيل للمستفيد من هذه التقنية بما يمكن تسميته بالإدمان الرقمي، وهو استمرار الالتصاق بهذه الأجهزة والمنظومة؛ إما عاطفيًّا بسبب سهولتها والإغراءات الشكلية التي تمنحها لمستخدمها، وإما من خلال التذكيرات المتتالية التي تصلنا منها برسائل تنبيهية حول ما طوره مبرمجو تلك التطبيقات وضرورة تحديث التطبيق للحصول على خدمات أفضل. وليت الأمر اقتصر على تطبيق أو اثنين، بل عشرات منها، وكل منها يقدم ترويجًا لآخر أو لجديد يقدم خدمات استثنائية غير مسبوقة. وهكذا يستمر الإنسان في ملاحقة هذه الخدمات وتحديثاتها المتتالية على أمل تحسين جودة حياته وتفرُّغه أكثر لما هو أهم. لكن هذا الأهم نادرًا ما يأتي، وقد لا يأتي إلا بعد فوات الأوان، وكل هذا لا يعدو كونه محاولات تبدو جميلة متدثرة بالأردية الرقمية من أجل مخاتلة مشاعرنا بغية التغلب على عناصر الرغبة في العلم والتزود بالوقود الرقمي الواعي.
وتعد القراءة من أهم الأمور المُضَيَّعة في خضم العواصف الرقمية التي تهب علينا كل ساعة وكل دقيقة، حتى ليصعب مجرد متابعة أخبارها فضلًا عن اللحاق وفهم طريقة الاستفادة منها. فأين موقع القراءة من الإعراب في هذا التغول؟ وكيف يمكن الفكاك منه في سبيل إعطاء عقولنا حقها كما نعطي لبطوننا واحتياجاتنا المادية والرقمية حقها؟
لا حل لنا إلا بإحداث كوة في الجدار الرقمي الذي يحجب عنا الرؤية الواعية لحقائق الأمور وأهمية الانفتاح المعرفي البعيد عن أي انحيازات رقمية تحيد بنا عن طريق القراءة. أما كيف نحدث هذه الكوة فهي قصة أخرى يجب أن تروى..