خيانة ورق
سألتني ابنة أختي «زهراء» عن حوار مكتوب في الصفحة الأخيرة من كتاب استعارته من مكتبتي، كدت أعترف لها بسرٍ عظيم، فلكل كتابٍ في مكتبتي قصة معكِ، فهذا اشتريناه معًا، وذاك هدية من عندكِ، والثالث ديوان شعر لدى كل واحد منا نسخة منه، والآخر عليه كتابة بقلمك.
في الصفحة الأخيرة الفارغة من هذا الكتاب، وجدت «زهراء» هذا الحوار الذي دار بيننا، ونحن عند صديقنا العجوز البحر، كنا نبوح له، وأتذكر أنني كتبته حتى لا يُنسى:
هي: يا الله.. أنت هنا؟
هو: وما المشكلة في أن أكون هنا؟
- لا مشكلة
- لا سؤال بلا سبب
- لأنني غالبًا لا أجدك هنا في مثل هذا الوقت..
- لو وجدت حفلة كلمات لكنت
- تبتسم
- ”أنا طوّاش أبحث عن الزين“
- الحفلات لا تأتي دون مناسبة
- نصنع المناسبات أم تصنعنا؟!
- أحيانًا نحن من نصنع المناسبات.. نحن من نسعى إليها دون سبب واضح.. وفي المقابل هي من تبدؤنا، تُفاجئنا فلا يسعنا إلا أن نكون في عمقها...
- منذ زمن وأنا أصنع حفلة للكلمات، وأترك الباب شبه مفتوح، وعندما تمرين قريبًا أفتحه، وأبتعد، أعلم أنك تحبين هذه الحفلات، فتتكون مناسبة، نتدرج، من الأطراف إلى العمق، مرات أتوه فأهرب، وأخرى أترك لك مقود المناسبة، وأتمتع بوجودي برفقتك.
- دعني أعترف، مرات عديدة، أكون خارج هذا العالم، ربما يكون برفقتي ”مزاج سيء“ في بعض الأحيان.. لكن حين أجد هذا الباب مفتوحًا، أجدني أبتسم كثيرًا، سرعان ما أنتبه بأن ”مزاج سيء“ غادر حين غفلة مني، وحل محله ”مزاج حسن“..
- تصلني كهرباء ابتسامتك، بل أسمع أحيانًا ”كلمات ليست كالكلمات“، وهذا يغريني أن أعيد المحاولة، وكنت أنجح دائمًا في صنع بساط يحملني من وحدتي، يأخذني حيث صخب الحياة، وجمال الأرواح، استحم في نهر البركة، وأعود إنسانًا خالصًا ”بلا عقد“.
- كنت ألمَحُ كل هذا، لكنّي في كثير من الأحيان أكتفي.. أكتفي بالصمت.. وأقف خلف الباب المفتوح، أسترق السمع الذي يصلني حينًا مباشرة، وحينًا أعلم أن ثمة كلمات متقاطعة أعرف حلها تمامًا، لكنّي أتعمّد أن أبقي بعضها فارغًا.. وكأنني أجهلها تمامًا...
- كان صمتك يقلقني، وكنت أعيد قرع الأجراس، وأعود لحفلة أخرى، أو أعود لأشرطة الحفلة السابقة، أراك تقفين.. يا الله، لماذا هنا ملامح قمر؟ وهنا فرح؟ وهنا صمت؟ لماذا الصمت؟
- تبتسم
- تكتفين بابتسامة؟ سأصنع حفلة تخرجك من صمتك
سأترك الباب مفتوحًا، وسأجعل من درويش مفتاحًا لبدء الحفلة، وسأدعو التبريزي وقبّاني وفيروز، وسأختفي خلف قناع...
- كان من المفترض أن تدعو غسان أيضًا.. غسان الذي أشبهه كثيرًا، هكذا شعرت، منذ عرفته، كنت أقرأ عنه وأقرأ وأقرأ، حتى اكتشفت يومًا ما أنّ لدينا نفس البرج.
- تعشقين الأبراج؟
- لست من عشاق الأبراج والإيمان بهم.. ذات يوم وأنا أقرأ في ”برجك اليوم“، رأيته بدأ بغسان، وكانت مفاجأتي الكبرى حينها.. حين تعرف غسان ستعرف لماذا هو يشبهني. أقصد أنا من أشبهه...
- نعم تذكرت غسان الذي كان يقول: ”كل الأبواب يجب ألا تفتح إلا من جهة واحدة“، لم أكن أعرفه، أنت من عرفتني عليه، «عائدٌ إلى حيفا»، هل تذكرين؟ لكنني لم أتعرف عليه، لهذا ما زلت أجهلك، صعب أن أعيد اكتشافك عبر وسيط، كنفاني وغادة، مجرد أسماء...
- لم أقل لك حين تعرفني.. قلت لك حين تعرف غسان.. أنت لا تحتاج لأن تكتشفني...
..
لم تنتهِ الكلمات لكن البياض خان الكتابة فتوقف القلم.