الدميني دائم القراءة
ما إن يصل الأستاذ علي الدميني إلى مكتبته العتيدة في منزله بمدينة الظهران بعد انتهاء دوامه العملي في البنك الأهلي التجاري وقبله في شركة أرامكو، حتى يبدأ مشواره اليومي الذي طالما أحبه منذ حداثة سنه؛ وهو القراءة والكتابة. فهذه المكتبة التي وصل عدد كتبها إلى خمسة آلاف عنوان، ويشكل الأدب عمودها الفقري، كانت المأوى الذي يجد فيه نفسه، ويبتعد عن كل ما يشوش عليه لذة الحياة، وهي التي تشبع توقه العارم للمعرفة من صنوفها المختلفة، فيقضي فيها ما يصل إلى ست عشرة ساعة، قارئًا أو كاتبًا.
عندما سئل الدميني عن تاريخ علاقته بالقراءة والكتابة، في الفلم الوثائقي الذي أنتجته جمعية الثقافة والفنون بالدمام
قال إنه كان يكتب منذ كان في الصف الرابع الابتدائي، حيث كان يحرر في الصحيفة الحائطية لمدرسته في قرية محضرة في الباحة جنوبي المملكة، التي كان الكتاب فيها آنذاك شحيحًا. وقال عن تلك المرحلة: ”هو المختبر الذي علمني بدون معلم فأصبحت الصحافة بالنسبة لي همًّا وحلمًا“، حتى استطاع أن يكتب أكثر من عشرة كتب لم تأت من فراغ بل من جَلَده الدائم، واهتمامه وشغفه بالقراءة وبعالم الكتب. وكان مما أصدره خمس دواوين شعرية ورواية الغيمة الرصاصية وسردية أدبية بعنوان «أيام في القاهرة وليال أخرى» وشجر الأغاني.
وعلى الرغم من أن العمل الوظيفي في كل من شركة أرامكو والبنك الأهلي كانا يأخذان من وقته الكثير، وعلى الرغم من عشقه للكتب، فإنه كان مخلصًا لعمله، بل كان - كما قال عنه شقيقي حسين الحسن «محامٍ في البنك الأهلي وزميل للدميني» - قائدًا في مجال عمله لا مجرد موظف يؤدي ما هو مطلوب منه.
وحينما تواصلت مع زوجته الكاتبة فوزية العيوني وسألتها عن علاقته بالكتاب أجابت بأن القراءة كانت تأخذ جل وقته، ولديه اهتمام كبير بالأدب المحلي ثم الخليجي، إذ يحرص على قراءة الأعمال الأدبية، ومن بينها المجموعات القصصية التي يصدرها الشباب في المملكة، فإن وجدها في مدينته وإلا طلبها من أي مكان داخل المملكة أو خارجها، مستعينًا بأصدقائه أو أقربائه. ولأنه كان قليل السفر فقد كنت أقوم بالمهمة نيابة عنه في بعض الأحيان.
وعندما كان ينتهي من قراءة كتاب فإنه كان كريمًا مع أصدقائه فيهديهم إياه أو يعيرهم، ولطالما فتح مكتبته للدارسين الباحثين عن مصادر مناسبة. وتضيف رفيقة حياته بأنه ”انغمس في جميع المدارس الفنية دون أن يفقده ذلك هويته الخاصة التي عرفه بها الجميع“. وتابعت: ”لقد كنت أتفهم شغفه الكبير بالقراءة والكتابة، وأحاول توفير الوقت عليه بإبعاده حتى عن مشاغل البيت واحتياجاته“.
أما عن المراحل التي مر بها فذكرت أنه بدأ بالأدب شعرًا ورواية وقصة، قبل أن يتحول إلى النقد الأدبي بكل مدارس النقد التي كان مغرمًا وشغوفًا بها. ولخصت الأستاذة فوزية حياته بأنها ”طاولة وكتاب“.
وعن تجربته المبكرة في القراءة ذكر الدميني في إحدى مقالاته أيضًا: ”في مكتبة مدرسة الفلاح الثانوية تيسر لي الاطلاع على بعض الصحف، فقرأت شعرًا للعواد، وعبد الله الفيصل، وحمزة شحاتة، وأحمد قنديل، ومحمد حسن فقي، وحسين سرحان، والسنوسي، وابن خميس، وكلها أسماء لم أكن قد سمعت بها أو استمتعت بشعرها من قبل“. ولم يكن الدميني يوفر الاستفادة من محطات الإذاعات العربية للتعويض عن عدم حصوله على بعض الكتب.
«الشاعر علي الدميني كان حريصًا على القراءة، وكان نديم الكتب»
فلما سألتُ د. فوزية أبو خالد عن علاقة فقيد الأدب والشعر، الأستاذ علي الدميني، بالكتب والقراءة، ولا سيما أنها اقترحت أن أكتب عن هذا الجانب في حياة الراحل العزيز، أجابت بأنه ”كان دائم الود والوصل للقراءة في جميع حالاته“، واستطردت: ”رأيته رَأْي العين يقرأ في أحلك الظروف وكأن القراءة شفاء له من كل كرب. وشاهدته يقرأ في الفرح وكأن القراءة تعبير عن روح البهجة وراحها. كان يقرأ في أثناء العادي واليومي، وكأن القراءة بالنسبة لعلي الدميني أرغفة وماء، وكأن الكتب امتداد ليده تمده بأسباب الحياة في كل مكان وزمان. فعندما لا يكون علي في العمل فإن الكتاب ليس فقط بالنسبة له خير جليس بل صديقه الحميم ونديمه الدائم. فإن لم يكن قارئًا فهو كاتب. وعندما كنت أزورهم في البيت لم أكن أرى عليًا إلا جالسًا بالقرب من عيني رفيقته فوزية العيوني ورفاقه من عيون الكتب. وكانت الكتب أو الحديث عن قراءاتنا من الكتب شمعة الجلاس. وقد أسرَّ الشاعر لي يومًا، في حضور صديقتي فوزية زوجته وبشهادتها، أن من أول قراءاتهما المشتركة وهما“ عرسان جدد ”كان كتابي الشعري الأول «إلى متى يختطفونكِ ليلة العرس؟»“.
ولم تنس د. فوزية أبو خالد الإشارة إلى عادة علي الدميني المنهجية في القراءة؛ بتلخيصه كثيرًا من الكتب التي يقرؤها، ثم يعمد بعدها إلى كتابة طبيعة تفاعله معها ونقاط ملاحظاته وتعليقاته عليها في أوراق جانبية، في حين يكتفي معظم هواة القراءة بتسجيل ملاحظاته على هامش صفحات الكتب، إلا أن الصديق علي الدميني - كما تقول - كان مهووسًا بالحفاظ على كرامة الكتب وجمالها بنظرته الحالمة والشفيفة للكتب، وكأنها أرواح حية مصبوبة في أوعية ورقية أو إلكترونية.
وعندما نعته الدكتورة فوزية في صحيفة الجزيرة، في 29 إبريل 2022 بقولها: ”الشهم الشريف الحر، الخل الوفي، أخي وصديقي، ونصيري وخصيمي، وعضيدي ونبراسي“، أضافت قائلة: ”كان دليلي للكتب الجيدة والجديدة. كنا في السفر للخارج نحج للمكتبات مرة عن أنفسنا ومرات عن علي الدميني لنرد له بعض جميله بهدية رمزية غالية على قلبه؛ وهي هدية الكتب، وذلك قبل أن تصبح المملكة العربية السعودية هي نفسها بمعرض الكتاب السنوي العالمي محجة لعشاق قراءة الكتب“.
كان لشغفه الكبير بعالم الكتب تأثير مباشر في مسيرة حياته بالكامل وخياراته، وهو الذي أشعل جذوة الثقافة والفكر والشعر في دواخله، تبلورت في صيغ مختلفة لم يكن أقلها شأنًا مشاركته في النشرة الجامعية «رسالة الكلية» عام 1971م، أيام دراسته في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن في سبعينيات القرن العشرين. ثم تألق في جهوده بإصدار ملحق المربد الشهير، الذي كان يصدر عن جريدة اليوم، والذي امتدت تأثيراته إلى مناطق عدة في العالم العربي، واستقطب أقلامًا وطنية مهمة، منهم من أصبح لهم دور ريادي في الحركة الثقافية في المملكة. وقد ساهم من خلال هذا الملحق في تأسيس الحركة الشعرية الحديثة في البلاد ليكون من أبرز عناوينها و”أحد أهم أعمدة الإضاءة في شارع شعرنا الحديث“، كما قال عنه الكاتب إبراهيم الوافي. وقد كان لملحق المربد دور مزدوج، فبينما قام بتعريف الشعب السعودي بالتوجهات الأدبية في العالم العربي، نقل صورة ناصعة للحركة الأدبية المحلية إلى العالم العربي.
هذا الهم المعرفي جعله يعد نفسه دائمًا متعلّمًا حتى آخر أيام حياته، وهو ما أبعده بالضرورة عن الظهور الإعلامي الذي يتكالب عليه بعضهم، مركِّزًا على بناء الواقع الذي يرنو إليه. وكانعكاس مباشر لذلك فإن كتاباته وقصائده كانت ”لا تستسلمُ إلى قارئها بيُسر وسماحة، لأنّها من القصائد التي تقتضي من القارئ التخلِّي عن الفهم التقليدي للشعر، كما تقتضي منه أن يبذل جهدًا تأويليًّا كبيرًا حتّى يستوعب رموزها، ويُدرك غامض أقنعتها“، كما قال عنه الكاتب محمد الغزي في مقاله في صحيفة إندبندنت عربية «26 إبريل 2022».
ورغم توجهه المعروف في الشعر فقد كان يكن كل الاحترام للشعر الشعبي الحديث، رغم مواقف بعض معارفه المعارضة لهذا التوجه.
ومن الجوانب المغْفلة في حياته احتفاؤه بأصدقائه بطريقته؛ فقد انعكس تعلقه بالكتب على علاقته بهم، سواء في حياتهم أو حتى بعد وفاتهم. ومن قصص الوفاء التي تحكى عن الدميني، الذي أدمن حب الكتب، أنه تبنى طباعة كتب صديقه القاص عبد العزيز المشري، الذي شاركه مسقط رأسه، ليرافقه في مسيرة الكتابة. فقد اقتطع عامين من عمره نذرها للعمل على جمع جميع أعمال الراحل الغالي رفيق الطفولة، وتنضيدها، وكتابة مقدمات لها، وأشرف على إخراجها في مجلدين شاهقين بما يليق بحفظ إنتاج المبدع المشري في كتب تتصدر رف المكتبة السعودية وتبقى منارًا ومحفزًا للأجيال لقراءة إرثه الروائي والقصصي بعد وفاته المبكرة «عام 2000م».
ومن حفاوته بالكتب أنه أصدر كتابين نقديين عن رائدين من رواد الشعر الحديث بالمملكة هما الشاعر محمد العلي والشاعرة فوزية أبو خالد؛ فقد كتب عن الأول كتابه «أمام مرآة محمد العلي»، وأصدر عن الشاعرة فوزية أبو خالد كتاب «شجر الأغاني.. قراءة نقدية في التكوين الشعري لتجربة فوزية أبو خالد».
وفي موقف طريف حصل للكاتب جمعان علي الكرت، ذكره في جريدة الرياض «3 مارس 2022م»، حين سئل عن أطرف المواقف التي حصلت له أثناء البحث عن الكُتب، وهو موقف يدل على مدى اعتزاز الأستاذ الدميني بالكتب، وأنه كان يرى أنه إذا وزعها بالمجان فإن ذلك قد يقلل من قيمتها لدى المتلقي، وقد لا يقرؤها، يقول الكاتب جمعان: أطرف موقف لي كان مع أخي وأستاذي الشاعر الكبير علي الدميني، إذ التقيته ذات مرة في معرض الكتاب الدولي بالرياض عارضًا كُتبًا من تأليفه دراسة نقدية عن القاص الراحل عبد العزيز مشري والشاعر محمد العلي، وظننت أنه يقدمها إهداء، إلا أنه ألمح لي بقيمة الكتاب لأدفع ثمنه، وقد فعلت وأنا في منتهى السرور، وهذا حق مشروع للمؤلف، إذ لا بد من دعمه وتخفيف التكلفة المادية التي تجشمها ليقدم كتبًا إثرائية تسهم في تنمية الثقافة وترفع من مستوى الوعي لدى أفراد المجتمع.
وقد وعى الدميني مبكرًا تأثر المكتبات بالتطورات الحديثة ودخول الإنترنت والتلفاز على الخط، حيث ذكر ذات مرة أنه متأكد بأن مكتبته غاضبة منه جدًّا. وحتى عندما أراد أن يسخر كانت الكتب في عمق نصوصه حين قال:
بهدوء كانت الفاكهة تضحك على المائدة،
ودخان ”المعسِّل“ يخلع ملابسه الداخلية،
والحروف تلمع في ظهيرة تلك الكتب التي
أحيانًا أقذف ببعضها تحت طاولة الطعام
وتضع صغيرتي القليل في سريرها
وأحيانًا - وبجانب مخدتي - ينام الكثير من مؤلفيها
بنيتُ لهم دواليب مكيّفة
وشبابيك لامعة بمفاتيح ذهبيّة
وفي حجرةٍ قصيّة علّقت على الباب فهارسَهم
ثم ملأتُ عينيّ براقصات ”الساتلايت“