فنجان اللحظة الشعرية
منذُ ارتدى ظلُّ المسافةِ روحي
غافلت آخر ضحكةٍ لجروحي
وصنعتُ من قِطعِ الكلامِ مراكبي
ومحوتُ عن مائي سفينةَ نوحِ
ومشيتُ.. لا أمشي، وأنت تهزُني
فنجانَ فاتنةٍ لصوتِ مليحِ
- جزء من نص «فنجان فاتنة» للشاعر علي مكي الشيخ
تعتبر الشذرات جنسا من الأجناس الكتابية المنتشرة في العصر الحديث وأحد أشكال «الأدب الوجيز»، لذلك يقول أحد الفلاسفة الغربيين «الشذرة فنّ يخاطب المستقبل»، ويقول رولان بارت، «هي استفزاز للفكر لا تلخيص له». وهي جزء من سلسلة طويلة تدعو القارئ إلى مواصلتها عبر الإسهام والمشاركة في التأمل والتأويل وهذا ما حاول الشاعر القيام به.
كعادته اليومية يطل الشاعر على قرائه بنص جميل ينفرط من سلسلة شذراته اليومية التي أصبحت على ما يبدو بديلا لكثير من الرسائل والتحايا الصباحية اللقيطة التي لا تمت للمرسل بأي صلة، إن حضور الأدب بشكل يومي يسهم في إعادة برمجة روح وعقل المجتمع ويساعد في إخراجه من مستنقع التفاهة والسطحية، وحين يستخدم الشاعر النص الأدبي ليقوم بهذه المهمة الاجتماعية يجب عليه ألا يغفل خطر إنزلاق النص لأمكنة قد تفقده ماهيته الحقيقية و«لغته الثالثة».
من الواضح أن الشاعر مقتنع بهذا الجنس من الكتابة لكونه جنسا أدبيا بليغ الفكرة، كثيف الصور، يصعب أن تَعثَرَ لحظتَهُ الشعرية بحشو الكلام بل يظل مشتعلا محلقا مع طيور الرؤى، من جهة أخرى قد يكون جنسا قريبا لروح العصر تستسيغه ذائقة الجيل الحالي بسبب التقائه في بعض صفات العصر من سرعة واختزال ما جعل الشاعر يصر على استخدامه للتواصل اليومي مع القارئ. نحن الآن لسنا بصدد الحديث عن هذا الجنس من الكتابة لكن هذه المقدمة ستخدمنا في إدراك اللحظة الشعرية والإضاءة التي تنبسج من ظلام العدم لرحم التّكَونِ حتى اكتمال الولادة الشعرية للنص.
«الفنجانُ» هنا ليس مرآةً لعرّافةٍ تَستَنطِقُ لسانَ الغيبِ وتقرأُ حظوظاً مُحتشدةً بالظلال والاحتمالات. «فنجان الفاتنة» هذا لا يُشبهُ «فنجان القارئة» لنزار قباني، حين كان يفضح على شفتيهِ أسرار المنفى، يكشف قبح وجه الحروب، يجمع سلال الخسارت ويصف طرق الحب المسدودةِ التي تحاول منع المحب من الوصول لمحبوبته النائمة داخل غرفتها التاركة ورائها حديقة مفخخة بالخناجر والموت.
«الفنجانُ» هنا ليس بِيدِ عجوزٍ ترتعش بصور الواقع المرير، تتوسل الحظوظَ بالنيابة عن العاشق، وتحاول أن تُمسكُ بحبل الغيب وعنقود الكلام، «الفنجان» هنا بيَدِ صبيةٍ جميلةٍ خفيفةِ الظلِّ تمتطي ظهر سحابة أبدية، تُلقي الألواح على العاشق ليقرأ صحف الغيب ويقطف عناقيد الكلام.
«الفنجان» هذه المرة ينتصب كعصا «المايسترو» ليقوم بمهمة ضبط الإيقاع وإعادة هندسة الفراغ «بصوت مليح» يضمن عدم انفلاته وانزلاقه في التراتبية المملة والخطابية المباشرة هذا «الفنجان» يُشبهُ لحدٍ كبير عصا «موسى» وهي ﴿تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ﴾ أو لنقل تلقف أي نصٍ رديءٍ لا يُخبئُ في جيبهِ أراجيح الطفولة ومراهقة وعنفوان الحب الأول.
الاتكاء على الروح، الرجوع للظل الأول، لعتبةِ الأبجدية ولآدم الكلمات يفتح النص على مديات صوفية ضاربة في الأبدية تقوم بسكب الزمن في «فنجان» واحدة، الجميل أن هذا الرجوع تكرم على الحواس وأتاح لها فرصة الحضور في مشهد وحفل ما ورائي بواسطة أفعال ومفردات حسية «ضحكة، صنع، مشي، صوت» ما سهل للقارئ القبض على تجليات النص الشعري، ومما لاشك فيه أن الصوفي خصيم لذود لكل ما هو محسوس وجسدي لكنه هنا أصبح صديق ودود حد الالتصاق بالحواس والأطراف. إن خلق أصابعٍ للروح جعل العزف أكثر صخبا وأشد حضورا يهز كيان القارئ كما هُز الشاعر بإيقاع «الفنجان والصوت المليح».
حين يرتدي الظلُ الروحَ مباشرةً قد تنغلق الدلالة فجأة بشكل ما، لكن إحالة «ظل المسافة» على «الروح» فتح في النص كوة حبلى بالدلالات والأسئلة خصوصا أن هذا «الظل» القادم من آدميته الأولى جعل «المسافة» تمتد امتدادا كونيا عندما اقترنت به أي بالظل، صحيح أن المسافة الفيزيائية مخنوقة بناتج ضرب السرعة والوقت لكن هذا القانون ليس باستطاعته خنق «ظل المسافة» الذي ارتدته روح الشاعر وأن تنزيل الظل على كتف المسافة يشي عن وقتٍ وسرعةٍ لا يمكن للفيزياء الإمساك بهما ما يضفي على المسألة تعقيدا أكثر، إذن الروح ترتدي ظلالا كثيفة لمسافة غير قابلة للقياس والإمساك ما يجعل مهمة الوصول للضفة الأخرى صعب للغاية ويحتاج لحسابات وتأملات عميقة وطموحة، لهذا كان الشاعر/ العاشق مشغول بتفحص خرائطه وإعداد مراكبه بشكل دقيق وفي نفس الوقت تغافل متعمدا عن آخر ضحكة / آخر خسارة حين تركها وراء ظهره مكملا رحلته يمخر عباب البحر بإصبعه، وراح يصنع «من قطع الكلام مراكبه» وقد «محى عن مائه» وذاكرته أسماء شيوخه وأسلافه حتى يحضى بكشفٍ وإشراقٍ جديد، كأنه أراد أن يقول أن النص سيمكنه من المشي على الماء كما أشار «ومشيتُ.. لا أمشي» وذلك لا يتحصل الا بالمحو والفناء في اللحظة الشعرية، نعم ”الشعر هو فنُ وضعِ البحر في فنجان“. كما يقول ”إيتالو كالفينو“ ولهذا سنجد النص مكتظا باللحظة الشعرية من أول اتقاد حتى آخر فونيم في جسد هذا النص.