آخر تحديث: 22 / 11 / 2024م - 1:35 ص

”دردشة جي - بي - تي“ ونظريّة تشومسكي اللُّغويّة

الدكتور أحمد فتح الله *

مقدمة

”محول الدردشة التوليديّة المدربة مسبقًا“ «Chat Generative Pre-trained Transformer» المعروف ب  ”دردشة جي بي تي“ «ChatGPT» هو روبوت محادثة «chatbot» طوّرته ”أوبن إيه آي“ «OpenAI» وأُطلق في 30 نوفمبر 2022م، وهو هو مبنيّ على ”عائلة جي بي تي-3“ الخاصة لنماذج اللُّغات الكبيرة وضُبط بدقة باستخدام تقنيات التعلم المراقب والتعليم المدعوم. وهو برنامج حاسوبي يقوم بإجراء محادثات بطريقة إما سمعيّة أو نصيّة، بحيث تعتمد إجاباته على الطريقة التي يتصرف بها الإنسان. ورغم ضعف دقة معرفته بحقائق المجالات المختلفة، سرعان ما حظيّ النّموذج الأوليّ بالاهتمام لردوده التفصيليّة والإجابات المفصلة في عديد من مجالات المعرفة. وعلى الرغم من أن الوظيفة الأساسيّة لبرنامج الدردشة هذا هي محاكاة المتحدث البشري، فإنّه متعدد الاستخدامات. على سبيل المثال، يمكنه كتابة برامج الحاسوب وتصحيحها وتأليف الموسيقى والمسرحيات والحكايات الخرافية ومقالات الطلاب؛ الإجابة على أسئلة الاختبار «في بعض الأحيان، بمستوى أعلى من متوسط البشر المتقدمين للاختبار»؛  كتابة الشّعر وكلمات الأغاني، محاكاة نظام لينكس، وغرفة محادثة كاملة؛ وألعاب مثل تِك - تاك - تو؛ وغيرها. على عكس معظم روبوتات الدردشة، يتذكر ”جي - بي - تي“ الأوامر السابقة المعطاة له في نفس المحادثة «الدردشة»، وهي ميزة تمكن من استخدامه في مجالات متعددة قادمة.

”دردشة جي - بي - تي“ ولُغويّات تشومسكي

في مقابلة مع صحيفة ”أوقات طهران“ «Tehran Times» في 28 مارس 2023م انتقد عالم اللُّغة الأمريكي، دانيال إيفريت «Daniel Everett» [1] ، نظريّات ”الأصلانيّة“ «الفطريّة» للعالم اللُّغوي المشهور نعوم تشومسكي، بحجة أن تشومسكي يركز فقط على القواعد، والتي هي جزء صغير فقط من اللُّغة، ولا تأخذ في الاعتبار الأصول الاجتماعيّة أو الثقافيّة للُّغة. يناقش إيفريت النتائج التي توصل إليها حول لُغة شعب الأمازون في البيراها «Piraha»، وهي واحدة من حوالي 8000 لغة منطوقة في العالم، بحجة أنها لا تختلف عن أي لُغة أخرى من حيث اكتساب اللُّغة. يقول إيفريت أن النظريات الحاليّة لتعلم اللُّغة تحتاج إلى مراجعة لأنها لا تأخذ في الاعتبار السيميائيّة والتفكير الاستنتاجي. تتطرق المقابلة أيضًا إلى العلاقة بين اللغة والفكر، حيث يجادل إيفريت بأن علاقة اللُّغة والثقافة علاقة تكافليّة، حيث يشكل كل منهما الآخر ويؤثر عليه بالضرورة. لكن اللّافت في هذه المقابلة هو موقفه من ”محادثة جي - بي - تي“ «ChatGPT» ودورها في نقض، حسب زعمه، نظريّة تشومسكي في اللغة واكتسابها، وهو ما سأركز على إجاباته عن الأسئلة حول الموضوع في هذه المقابلة.

كيف ترى مستقبل اللغات في ضوء التطورات الحديثة في الذكاء الاصطناعي «AI» والتعلم الآلي «ML»؟ ماذا سيكون تأثير الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي على تنوع اللغات والثقافات، وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على فهمنا للتنوع اللغوي كمورد قيم للأغراض العلمية والمجتمعية؟ بينما نتحرك نحو المزيد من الأتمتة والرقمنة، هل تتوقع أن الذكاء الاصطناعي سيفرض في النهاية لغة وثقافة عالمية على العالم، أم أنك ترى إمكانية ظهور أشكال جديدة من الإبداع اللغوي والثقافي استجابة لهذه التطورات؟

البحث البياني «Computational Research» ليس له علاقة منطقيّة بتنوع اللغات والثقافات. لكنني أعتقد أن المزيد والمزيد من الباحثين سيبدأون في إدراك أن الثقافة يجب أن يتم أخذها في الاعتبار من خلال نمذجة الذكاء الاصطناعي تمامًا كما تفعل اللغة. لقد كتبتُ على نطاق واسع عن أهمية الثقافة في العلوم المعرفيّة، وخاصة كتابي عن ”المادة المظلمة للعقل“ «Dark Matter of the Mind»، إصدار مطبعة جامعة شيكاغو [2016م].

جادل لُغويّون مثل تشومسكي بأن ”أدوات“ مثل ChatGPT بعيدة كل البعد عن تحقيق ذكاء اصطناعي حقيقي. ما هو منظورك للعلاقة بين الذكاء الاصطناعي والذكاء البشري، وكيف تعتقد أنه يمكن استخدام الذكاء الاصطناعي لتعزيز فهمنا للإدراك البشري واكتساب اللغة؟ هل تعتقد أن هناك مجالات محددة لاكتساب اللغة أو معالجة اللغة يصعب على الآلات تكرارها بشكل خاص، وإذا كان الأمر كذلك، فما هي؟

إذَن هذا ما فعله ChatGPT: لقد دحض بأشد العبارات ادعاء تشومسكي بأن المبادئ الفطريّة للُّغة ضروريّة لتعلم اللُّغة. أظهر ChatGPT أنه بدون أي مبادئ متشددة من القواعد النحوية أو اللغة، يمكن لهذا البرنامج، إلى جانب البيانات الضخمة «نماذج اللغات الكبيرة»، تعلم لغة. ناقش تشومسكي مؤخرًا أمثلة لا يفهمها ChatGPT حتى الآن. الشيء المثير للاهتمام في هذا العدد الصغير جدًا من الأمثلة هو أنه أسيء فهمها أيضًا من قبل العديد من الأطفال ومتعلمي اللغة الثانية «على سبيل المثال، كان بيل عنيدًا جدًا لدرجة أنه لم يتمكن من إعطاء الكتاب».

ChatGPT هو في طفولته، طفل بدأ للتو، مع ظهور نماذج محسنة، سيصل إلى مرحلة المراهقة ثم سن الرشد «وما بعدها». هناك ورقة بحث، في نظري، هي واحدة من أهم الأوراق التي ظهرت منذ عقود حول هذا الموضوع تحديدًا، وقد كتبت لتجمع سيقام على شرفي في مركر دراسات المخ في معهد مستشوتش للتكنولجيا، وقسم العلوم المعرفية «Cognitive Sciences» في يونيو القادم، وفيه يؤكد الباحث أن برامج مثل ChatGPT ستكون قادرة على إتقان أي مجال من مجالات اللُّغة.

حذر مؤرخون مثل يوفال هراري في صحيفة نيويورك تايمز من أنه ”إذا لم نتقن الذكاء الاصطناعي، فسوف يتقننا“. ما هي وجهة نظرك بشأن هذا التحذير، وما هي الخطوات التي تعتقد أننا بحاجة إلى اتخاذها لضمان تطوير الذكاء الاصطناعي واستخدامه بطريقة مسؤولة وأخلاقية؟ كيف يمكننا الموازنة بين الفوائد المحتملة للذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي والمخاطر والتحديات المحتملة، وما الدور الذي يمكن أن يلعبه اللغويون والباحثون الآخرون في هذا الجهد؟

أنا لا أخشى الذكاء الاصطناعي أكثر مما أخاف ”ثلاجتي“ [المنزليّة]. المشكلة الوحيدة المحتملة للذكاء الاصطناعي هي كيف نستخدمه نحن كـ ”مجتمع“. [أمّا بالنسبة لي،] أنا لا أثق في الذكاء البشري أكثر من الذكاء الاصطناعي «وهو مصطنع بامتياز».

الخلاصة:

أظهر ChatGPT، حسب رأي الدكتور إيفريت، أنّ اكتساب اللُّغة ممكن دون قواعد «grammar» أو أنظمة لغويّة «language rules» فطريّة «innate»، بل يتم تحقيق ذلك من خلال استخدام كميات هائلة من البيانات، كما هو واضح في نماذج اللُّغات الكبيرة. لكن يبقى السؤال: هل العمليّة بهذه البساطة التي صورها خصم تشومسكي التنظيري اللذوذ؟

 

[1]  الدكتور إيفريت لُغويّ بارز معروف بدراساته حول لغة ”بيراها“ «Piraha»، في منطقة الأمازون، وآثارها على فهمنا للُّغة والإدراك، وهو من أشد المنتقدين للنظريّة الفطريّة التي قدمها نعوم تشومسكي. والمقابلة معه كاملة باللُّغة الإنجليزيّة حول رؤيته حول العلاقة بين اللُّغة والثقافة والإدراك، وكيف يمكنها توجيه تطور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي، وقمت بترجمتها بتصرف، وهي منشورة على موقع الصحيفة، على الرّابط:

https://www.tehrantimes.com/news/483187/Exclusive-Linguist-says-ChatGPT-has-invalidated-Chomsky-s-innate
تاروت - القطيف