منهج البحث الإسلامي والحركة العلمية
يشكل منهج البحث الإسلامي في الحركة العلمية الإنسانية أحد مناهج البحث العلمي المتميزة بالشمولية والتكامل في بحث القضايا الكبرى للكون والوجود والخلق.
ومعالم هذا المنهج تتشكل من التفكير العقلي المنظم لأفضل طرق البحث العلمي وممارساته المثلى حسب التصور الإسلامي.
وخصائص هذا المنهج إنه منفتح على العقل الإنساني، ويجدد في أدوات البحث المنهجي المكتشفة في التراث الإنساني مستخدمًا وسيلة التنقيب الحثيث لتحقيق الوصول للحقيقة الكاملة في أعلى هرم العلم والمعرفة.
إلا أنه من خلال التتبع والبحث الأولي لأطروحات المفكرين الإسلاميين العرب والمؤلفات والنشرات في هذا المجال يتضح أنه تاريخيًا لم يتم طرح دراسة أو بحث بعنوان معالم منهج إسلامي في البحث العلمي، له قواعد علمية محدده يستدل بها الباحث الأكاديمي أو الباحث الإسلامي في بحثه لتطوير نظرية المعرفة الإنسانية. ولم يتم وضع أسس لمنهج إسلامي في البحث العلمي له قوانين تكفل تحقيق البراهين العلمية للباحث، مما تسبب في تراجع مؤشر تطور البحوث العلمية لدى علماء المسلمين وأفول نجم الحضارة الإسلامية.
ويهتم منهج البحث الإسلامي بدارسة جميع أنواع العلوم والمعرفة بأنواعها الروحية، والمادية، والفكرية، وما وراء الطبيعة، ويبحث في الفلسفة والعلوم الإنسانية، والكيمياء، والفيزياء، والرياضيات، والهندسة، والطب، والفنون المتنوعة بغية إدراك وبلوغ عقل الأنسان للمعارف الكاملة.
والحقيقة المحورية التي يهدف كشفها في منهج البحث الاسلامي ببحثها وركز على أبعادها واستقصى في أدق تفاصيلها في العلوم القديَمة والحديثة كانت الاستدلال على حقيقة وجود الخالق العظيم في كل الموجودات والخلق التي أضاع بوصلتها علماء الغرب المعاصرين
وطبق علماء المسلمين المنهج الإسلامي للبحث في ما يحيط بهم من أسرار الوجود وظواهر الطبيعة وذلك لتعميق إيمانهم بخالق الكون العظيم.
وتعددت المناهج البحثية والفلسفية تاريخيًا، ومنها المنهج الوصفي والمنهج التاريخي والمنهج التجريبي والمنهج التحليلي والمنهج الفلسفي والمنهج الاستقرائي والمنهج الاستنباطي حتى أصبح للعلم التجريبي الحظوة لدى الباحثين وبالأخص لدى علماء الحضارة الغربية الحديثة.
والحقيقة الموضوعية أنه لا يمكن تعميم تطبيق أي منهج بحثي وفلسفي على أنه المنهج الكامل الذي يبحث جميع القضايا الكونية والإنسانية والفكرية مالم تثبت صحة تطبيقه لدى جمهور المختصين والعلماء المطلعين.
وقد رصد بعض المفكرون المعاصرون العديد من الملاحظات على المنهج التجريبي التي تبرهن قصوره في تحقيق نتائج الحقيقة العلمية الكلية بما تطابق الحقيقة العلمية الواقعية، ويعزى ذلك بما يتعلق بأدوات الباحث في إجراء التجربة ومقاييسها فالاستقراء المطبق في التجربة والمتبع في العلم التجريبي الحديث جزئي وناقص في تطبيقه أثناء إجراء التجربة على حالات محدودة وغير متساوي بين مقدمات التجربة ونتائجها وأن تعميمها على أنها قاعدة وقانون علمي يحقق نفس النتيجة الكلية لمادة التجربة ما هو إلا حدس الباحث وليس حقيقة لنتيجة التجربة البرهاني واليقيني.
وللحراك العلمي المبني على البحوث العلمية في اكتشاف العلوم المختلفة الجديدة دور رئيس في ازدهار واتساع رقعة حضارات شهد لها التاريخ، خلفت أرثًا من العلوم الواسعة وأثارًا من الفنون المتنوعة، التي من أهمها الحضارة الفرعونية، والهندية، واليونانية، والرومانية، والصينية، والفارسية، والإسلامية، والحضارة الغربية الحديثة.
وتدرجت الحركة العلمية الإنسانية تاريخيًا في مراحل تطور المنهج المتبع في البحث العلمي شكل منحنى تصاعدي من التطور العلمي في مختلف العلوم الإنسانية، وأنتج معرفة تراكمية في أعلى هرم المعرفة للعصر الذهبي الحديث.
ويشار إلى أن بداية الحركة العلمية لعلماء المسلمين كانت مرتبطة بدراسة الظواهر الطبيعية وبحثها، ولم يتوقف علمهم وآثارهم على الفترة التي عاشوها، بل امتد علمهم واتسع ليشمل ترجمة كتبهم وما قدموه من علوم، للكثير من اللغات التي منها اللغات الأوروبية، وعلى آثاره تكونت الحضارة الغربية الحديثة، وبناء نهضتهم العلمية وأسسها على مؤلفات وتراث علماء العرب، وتراث الحضارات الأخرى للأمم السابقة.
ويذكر المؤرخون أن الحركة العلمية الواسعة لعلماء المسلمين بدأت في القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي وبلغت أوجها في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، ولعل السبب في ذلك يعود لضلوع العلماء المسلمين في تناول مختلف العلوم ومحاولتهم الجمع بينها.
وتميز القرن الثاني الهجري بأنه العصر الذي تأسست فيه العلوم الإسلامية بمناهج نظمّت الطرح العلمي، وتم فيه تأطير الدرس العلمي ببرامج مدونة نتج عنها الكتب التأسيسية في كل فن من الفنون، وهي الكتب التي يطلق عليها أمهات الكتب، وهي أصول كل علم.
وكانت مدينة بغداد إحدى أظهر الحواضر العلمية الزاهرة المشتهرة بالعلم والمعرفة وعكفوا على تطوير علوم التراث اليوناني وتعديل كثير من أفكار العلماء السابقين ونقحوا العلوم التي ورثوها وساهموا في تطور العلوم البحثية والتطبيقية، ويظهر ذلك بشكل واضح في نظرياتهم المتعددة في العلوم الرياضية، والفيزيائية، والكيميائية، والفلكية، والطبية، والصيدلانية وغيرها.
واستطاع علماء المسلمين الأوائل فك القيود الجامدة التي عطلت حرية البحث العلمي خلال العصور الوسطى، وبلوروا حرية البحث العلمي بوحي من المنهج الاسلامي الذي يحث على الدراسة والتفكير، على عكس ما كان يحدث في أوروبا التي كانت تعاقب العلماء.
فخرجت لنا المعاجم التي وُضعت على أساس العلوم، ونظمت فيها التراجم لرجال كل علم على الأبجدية فكان من أوائل العلوم الطبيعية التي لقيت عناية المؤرخين برجالها علماء الطب والتنجيم.
ومن أمثلة تلك المؤلفات: كتابا ”أخبار الأطباء“ و”أخبار المنجمين“ لابن الداية يوسف بن إبراهيم «ت265 هـ /878م»، وكتاب ”تاريخ الأطباء والحكماء“ لإسحاق بن حنين «ت298 هـ /911م»، وكتاب ”سيرة الحكماء“ لأبي بكر الرازي «ت313 هـ /925م»، وكتاب ”إخبار العلماء بأخبار الحكماء“ لجمال الدين القفطي «ت646 هـ /1248م»، وأما كتاب ”عيون الأنباء في طبقات الأطباء“ لابن أبي أصيبعة «ت668 هـ /1270م» فإنه يعد أوسع كتاب وأهم مصنف في بابه.
والحركة العلمية الإنسانية المعاصرة مثابرة في تطوير العلوم وتحقيق الاكتشافات العلمية المذهلة للكون والطبيعة، إلا أن هناك مساحات كبيرة مجهولة عن حقائق الكون والخلق والوجود في العقل الإنساني لم يتمكن البحث العلمي الحديث من رصدها أو قياسها.
وفي هذا الصدد صنف مؤشر نيشر nature index أن المملكة العربية السعودية تمثل 65٪ من ناتج البحث العلمي في العالم العربي، وعلى المرتبة 29 عالميًا لأكثر الدول حصة في جودة البحث العلمي، كما حققت المملكة 33 ألف بحث علمي منشور حسب مؤشرات النشر العالمية 2020 بزيادة 120٪ من الأعوام السابقة، مما يدل على أن هناك حراك بحثي يتمثل معظمه في الجامعات.
ولا تزال حركة البحوث وتطوير العلوم الإنسانية المعاصرة يتسارع من قبل علماء الغرب والشرق لتحقيق السبق العلمي، إلا أن الحضور العلمي للعقل الإسلامي والعربي المفكر ودوره في الحركة العلمية الحديثة يكاد يكون خجولًا وغير مؤثر وعلى استحياء وتارة يفتقد للثقة بالمنتج والمبحث المحقق.
وحتى نتمكن من وضع أقدامنا على خطى بناء نهضة علمية حضارية فأننا مطالبين بالبدء في توثيق أسس وقواعد منهج بحث علمي بحلة وبصمة إسلامية يساهم في تطوير العلوم الحديثة والقديمة لتشكيل منظومة علمية جديدة تبني هرم معرفي كلي لمختلف العلوم بحسب رؤيتنا وعقليتنا الإسلامية والعربية وبما يتوافق مع مبادئنا.