آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

الربيع العالمي للإلحاد

طالب عبد الحميد البقشي *

يأتي الحديث في هذا المقال عن الإلحاد ليضعنا على أعتاب الوعي بمستقبل الإلحاد على خارطة العالم خلال السنوات القادمة مستشرفاً مدى التأثير والتمدد الواسع للمعتقدات اللادينية عالمياً وما سوف يؤول إليه واقع الأمم والمجتمعات الإنسانية في مستقبل الأيام من تحولات في أعداد المنتمين للأديان وتحولهم إلى اللادينة لاسيما أن الإلحاد ليس ظاهرة محدودة عابرة كما صورها كثير من الكتاب أو موجه محدودة معرضة للزوال.

ولا يصدق إطلاق مسمى ظاهرة على الإلحاد الجديد كما وصفها بعض المثقفين بحسب المفهوم الدقيق للظاهرة فلا يمكن أن تمتد الظواهر لقرون متعاقبة وإنما الوصف الدقيق للإلحاد الحديث يتضح بأنه موقف تاريخي انفعالي وتحول من منظري الفكر الغربي على تخرصات سلطة الكنيسة الدينية الأوروبية إلى فكر متنامي وعمل مؤسسي منظم يهدف إلى نشر فكر وثقافة اللادينية وتقليص مساحات الأديان في الأوطان.

ويشار إلى أن ثمة مؤسسات عالمية ترعى الإلحاد وترعى الملحدين والتي من ضمنها التحالف الدولي للملاحدة ورابطة الملاحدة، والرابطة الدولية لغير المتدينين والملحدين، حتى قيل إن بعضها تعطي مساعدات مالية كبيرة للمنظم فيها حسب فاعليته تصل إلى 350 دولار شهريا.

ويذكر أن تبلور مصطلح الإلحاد بدأ بعد انتشار الفكر الحر والتشكيك العلمي خصوصًا فيما يتصل بعالم ما وراء الطبيعة وتنامي نشاط التيارات الفكرية في نقد الأديان حيث مال الملحدون الأوائل إلى تعريف أنفسهم باستخدام كلمة ملحد في القرن الثامن عشر في عصر التنوير والدفاع عن سيادة العقل البشري.

واستناداً إلى كارين أرمسترونغ في كتابها تاريخ الخالق الأعظم فإنه ومنذ نهايات القرن السابع عشر وبدايات القرن التاسع عشر ومع التطور العلمي والتكنولوجي الذي شهده الغرب بدأت بوادر تيارات أعلنت استقلالها عن فكرة وجود الخالق الأعظم وهذا العصر كان عصر كارل ماركس وتشارلز داروين وفريدريك نيتشه وسيغموند فرويد الذين بدأوا بتحليل الظواهر العلمية والنفسية والاقتصادية، والاجتماعية، بطريقة لم يكن لفكرة الخالق الأعظم أي دور أو ذكر فيها.

وقد كان نتاجا لكل ذلك أن خرج بعض الكتّاب من عباءة الدين بالكلية، فلم يكتفوا بالنقد العقلي مع البقاء على الإيمان بالإله كما كان الحال مع جون لوك وديكارت واسبينوزا، وإنما اتجه البعض صراحة لإعلان إلحاده الكلي كالبارون هوليباخ، الذي كان أول من ألّف كتابا مستقلا في ذلك الشأن في أواخر القرن الثامن عشر، معلنا نفسه كما يقول باومر عدوا شخصيا للإله وقد تبعه في ذلك فيورباخ في القرن التالي، والذي نادى بتقديس الوجود الإنساني والطبيعة وجعلها مركزا للتفسيرات.

وفي العصر الحديث، بدأ الملحد الغربي في النقد الديني شراسه حديثة، جادًّا مرة ومستهزئا أخرى حتى يقول بول هازار إن القرن الثامن عشر أراد أن يمحو فكرة الاتصال بين الإله والإنسان ثم أتى القرن التاسع عشر بهجمته الكبرى، فتقول عنه كاريت آرمسترونج ما من مجتمع قد استأصل الدين الذي كان الناس يقبلونه بدهيا كإحدى حقائق الحياة، ولم يحدث ذلك إلا نهاية القرن التاسع عشر، عندما وجدت حفنة من الآدميين أن من الممكن إنكار وجود الله.

وشهد القرن العشرين صراعاً فكرياً واسعاً بين الفكر الإسلامي والفكر الإلحادي وهزم الإلحاد في نهاية القرن العشرين ثم عاد للظهور من جديد بوجه مختلف عن موجة الإلحاد العلمي التي طالعتنا في أواسط القرن العشرين.

وفي مطلع القرن المعاصر للواحد والعشرين فإن الإلحاد الأوروبي طور المواجهة الفكرية مع الفكر الديني واختلف طرح الإلحاد العلمي عن السابق واستخدم بعض المفكرين العلمانيين فكرة التركيز على جعل الإلحاد يرتقي إلى مستوى فلسفة مستقلة لها تطبيقات تطرح بموضوعية وتعرض بأسلوب البحث العلمي وهذا تحدي فيه تأثير كبير وتضليل واسع لعقول البشر وبالأخص المنتمين للفكر الديني

ولا يزال هذا الصراع الفكري محتدم بين الفكر الديني والفكر الإلحادي إلا الفكر الأخير له حضوراً قوياً عالمياً لم يشهد له مثيل في المحافل الدولية والأوساط الثقافية والاجتماعية ويمتلك قدرات كبيرة حتى بات طرح الأفكار الإلحادية المضللة والمنحرفة منتشر في وسائل الأعلام المشاهدة والمسموعة والمقروءة في القنوات والندوات والكتب ومواقع النت الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعية.

ووفقًا لدراسات علمية منشورة، فإن معدلات الإلحاد هي الأعلى في أوروبا وشرق آسيا 40% في فرنسا، و39% في بريطانيا، و34% في السويد، و29% في النرويج، و15% في ألمانيا، و25% في هولندا، و12% في النمسا أجابوا أنهم لا يؤمنون بوجود أرواح أو آلهة أو قوة خارقة، وجاءت النسب أعلى لمن عبروا عن إيمانهم بوجود روح أو قوة ما وهؤلاء يطلق عليهم لا دينيين أو لاأدريين. بلغت النسب في شرق آسيا 61% في الصين و47% في كوريا الجنوبية بينما تعد اليابان حالة معقدة إذ يتبنى الفرد الواحد أكثر من معتقد في وقت واحد. في أميركا الشمالية، 12% في الولايات المتحدة يعتبرون أنفسهم ملحدين و17% لا أدريين و37% يؤمنون بوجود روح ما ولكنهم لا دينيين. و28% في كندا.

ويقدر مركز بيو أن نسبة الملحدين حاليا من إجمالي عدد سكان الكرة الأرضية إلى 13 في المئة رغم تزايد عددهم الإجمالي من 1,17 مليار في 2015 إلى 1,2 مليار في عام 2060.

ويعد اللادينيون في الولايات المتحدة هم الأكثر انتشارًا وشهدت كل من كندا وأستراليا وأجزاء كبيرة من أوروبا زيادة كبيرة في أعداد اللادينيين، حيث من المتوقع أن تكون أكثر توسعا من خلال التحول الديني لصالح الإلحاد بحوالي 61 مليون، ويليه الإسلام بحوالي 3 مليون من حيث الأعداد المطلقة، يبدو أن اللادينية جنباً إلى جنب مع العلمنة عموماً في تزايد وفقاً لمسح مركز بيو للأبحاث

والحقيقة الموضوعية بأن منظري الفكر الإلحادي لم يسعوا إلى التحقق المتجرد والجاد من فكرة وجود الإله في البحوث العلمية التي ترتكز على الدلائل والبراهين الصادقة ولكنها بحوث هزيلة لها ارتباط بموقف وحكم مسبق ينفي حقيقة وجود إله منذ بدايات تشكل فكر الإلحاد في القرن الثامن عشر وحتى تدرج هذا الفكر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين وتناميه في القرن الواحد والعشرين فليست هناك حقائق علمية منطقية مثبتة أو بحوث جادة موضوعية طرحت من الملحدين الغربيين بني عليها حقيقة تؤكد وتثبت عدم وجود إله، إذا هذا الإلحاد الجديد كان ناتج عن انفعال عاطفي بني على فكر تراكمي لتحقيق تحرر العقل البشري عن وصايا الدين المتمثل في الكنيسة الأوربية لفصله عن شؤون الحياة العامة تمهيداً لتقديس وصاية العقل الملحد على البشرية، وهذا ما سوف يتجلى في المجتمع الإنساني الكبير مستقبلاً.