الشاعر محمد سعيد الشيخ علي الخنيزي
”في البدء كانت الكلمة“. وقبل الخليقة على هذه الأرض تعالت الكلمة في الملكوت في حوار رباني مع الملائكة. عُلِّم آدمُ الأسماءَ ليوظِّفها في الكلام، وصاغت الكلمةُ أشعارَ العرب تحفةً فنيةً فريدةً تتطلَّع إليها الآداب جميعُها على أنَّها واسطة العقد في عالم الشعر.
ليستِ الكلمةُ وِحدةً صوتيةً فحسب! الكلمة بمستوياتها الدلالية تأخذ بألبابنا وتجيء بها كيف شاءت. تلوِّن المعانيَ المتعددةَ، وتصنع أساليبها المختلفة التي تعكس الانفعال الداخلي للقائل، كما تتلاقى مع روافد ثقافته المكتسبة «الفكرية، الاجتماعية، الدينية، السياسية، الأدبية».
هذه الكلمة التي تتسع في مفهومها المعنوي - إضافةً إلى المادي - تكون رسولاً في عملية التفاعل بين المرسل والمتلقي. تتجاوز وظيفتها الصوتية إلى كيانٍ أعمقَ وأغنى؛ يكون مشحوناً بذاتية المتلقي المتمثلة باختياره للكلمات التي تعبر عن حالته الشعورية، وتكتنف رسائلَه اللا نصِّيَّة. حتى تصلَ إلى المتلقي أصواتاً ومشاعرَ ومكنوناتٍ نفسيةً تجعله يتشارك مع المرسل «الشاعر، الكاتب، القائل» حالاته الانفعالية؛ فيسمع بأذنه، ويرى بعينه، ويعيش نبضَه المتمثلَ في حرفه؛ سواءً رسمه زهراً تعبق الروح بشذاه، أو شوكاً يؤلم شغاف القلب.
التجلي الأسمى للتجربة الكلامية يتمثل في الأدب عموماً، وعلى الخصوص الشعر؛ ذلك لتميز الشعر عن غيره من الأجناس الأدبية باشتماله على الموسيقا واللغة واللون والحركة؛ فهو تركيب مزجي من فنون عدة وألوان فكرية تكاد لا تنتهي.
الشعر العربي الممتد في أصوله، المتجذِّر في الثقافة العربية والإسلامية كان وما زال يفيض إبداعاً وتألقاً على أيدي مبدعي العرب من مختلف العصور.
لم تصدق مزاعم عنترة! فالشعراء لم يقولوا كل ما يمكن أن يقال بالطريقة المبتكرة التي تناول فيها شعراء العصر الحديث الموضوعات الشعرية. فإذا ما تناولنا أعمال الشاعر الأديب المفكر محمد سعيد الخنيزي وقعنا على شعرٍ رقيقٍ تطربُ به الروحُ، وتَطِيْبُ به النفسُ، بعيدٍ عن شعر العلماء وثقله على المسمع، يدنو من الشعر الذي يحاكي خفة ورهافة سَجيَّة الشعر لا التطبع؛ فشاعرنا على الرغم من إحاطته بالعلوم الشرعية والفكرية والفلسفية، وعمله في المحاماة التي تتطلب جهداَ عقلياً تغيب به العاطفة، نجده من رواد المدرسة الرومانسية ذات الرؤية التي تقول: ”إنَّ الشعرَ وجدانُ“.
وأول ما تطالعنا ملامح الرومانسية في العنوانات التي اختارها لأعماله: النغم الجريح، شيء اسمه الحب، شمس بلا أفق، مدينة الدراري، كانوا على الدرب، خيوط من الشمس، تهاويل عبقر، أجراس حزينة، أوراق متناثرة.
هذه العنوانات التي تحاكي المشاعر الإنسانية، وترمي إلى العزلة عن الواقع المؤلم، ونجد الشاعر فيها ينشد في الطبيعة السلوى والراحة من أعباء حياةٍ لا ترغبُ بأن تُغْدِقَ عليه أسبابَ الهناءةِ؛ فوفاة والده - وهو لا يزال يافعاً - تركت ألماً يقد فراشه. لا سيما وأبوه هو الذي وضعه على الخطوة الأولى في طريقه، ودفع به لولوج الوسط الأدبي؛ فمهَّد له طريق الأدب بأن أدخله الكُتَّاب؛ وهو المكان الذي يعبق برائحة الكتب القديمة، وتتردد فيه أصوات الشيوخ القدامى، وتجد أينما وجَّهت وجهك فيه سكينةً منبعثةً من صوت ترتيل القرآن في زواياه. مكانٌ تهرب فيه الروح من ضجيج الحياة وصخبها إلى مناجاة الله وطمأنينة النفس، يبعث في النفس الهدوء الذي ترنو إليه المدرسة الرومانسية في الأدب؛ فنجد الخنيزي بذلك قد خَبِرَ معنى عزلة النفس وانشغالها بصوت القرآن وطمأنينة الروح في الحياة قبل أن تصبح العزلة لديه وليدة التوجه الأدبي.
ولم يكن تعليم الخنيزي تعليماً تقليدياً فحسب؛ وإنما وضعه الأب الشيخ المعطاء أمام أمهات الكتب في علوم الشريعة واللغة العربية؛ لينهل منها ما رَجِيَ أنْ يروي ظمأه للمعرفة؛ غير أنَّ المعرفة نبعٌ عذبٌ كلَّما نَهلْتَ منه ازددتَ ظمأً إلى مزيدٍ من الرِّيِّ.
ولمَّا أراد الخنيزي الإنسان والمفكر والشاعر أن يوظِّف خبرته في العلوم الشرعية والدراسات الفكرية ارتأى بدايةً جديدةً تكون في المرافعة عن القضايا ومزاولة مهنة المحاماة. وهي مهنةٌ قد تُوْهِمُنا بُعْدها عن مجال الشعر في كونها تحاكي العقل والمنطق، ولا تقوم إلى بالجمع والاستنباط والتحليل والتركيب؛ غير أنَّها مهنةٌ تتلاقى مع الشعر في كونهما «الشعر، المحاماة» ضمن محور العلوم الإنسانية؛ فمهنة المحاماة تقوم على أهدافٍ إنسانيةٍ نبيلةٍ: من الشعور بآلام الآخرين، والتعاطف معهم، ومحاولة زود الظلم عنهم.
هذه المزاولة لمهنة المحاماة من قبل الخنيزي لا بد وقد أطلعته على حكاياتٍ مؤلمةٍ ولَّدتْ في بواطنه شعوراً بالميل إلى البعد عن الحياة المؤلمة وصخب الظلم فيها، واللَّوذ بحمى الشعر الذي يمنحه حريةً في التعبير عن النَّفس، وارتباطاً بالطبيعة التي تخفف من ألم حياةٍ رتيبةٍ تقتلها المشاغل، بالإضافة إلى أنَّه في محراب الشعر يلوذ بمساحةٍ ذاتيةٍ تعزز تجربته الشعرية بإنصاته لصوت ذاته ودمج آلامه في الآلام الإنسانية؛ فتبوح نفس الشاعر المترددة في خلده بآلام الإنسانية وأحزانها بلَبُوسٍ فنيٍّ جميلٍ، بحزنٍ فنيٍّ جماليٍّ تميل له النفسُ، وتَأْنَسُ له المسامعُ.
لم يتوقف تأثر الشاعر الخنيزي عند المدرسة الرومانسية فحسب؛ وإنَّما نجده قد شارك شعراءَ المهجر رؤاهم الأدبية؛ فكانت موسيقاه الشعرية فيها من تجديد شعراء المهجر في الوزن، مهتماً بالحجر الأساس في الشعر ألا وهو ”العاطفة“ دون أن يخرج عن الأوزان الخليلية خروجاً سافراً.
الشاعر الخنيزي بلغته الأصيلة، وحسِّه الرومانسي، وغناءه آلامَه الذاتية، وطرحه لتجاربه الحياتية العميقة؛ يضعنا أمام دواوين شعرية لها بصمتها الخاصة في عالم الشعر؛ ليكون رائداَ من رواد القطيف والمملكة في الحركة الأدبية، وشاعراً متميزاً حافظ على أصالة القديم في لغته وموسيقاه الشعرية، وواكب المدارس الأدبية في الشعر العربي الحديث.
فكان بحق نموذجاً يفخر به الشعرُ، وتفتح تجربته آفاقاً جديدةً لرواد الأدب ودارسيه.