آخر تحديث: 31 / 10 / 2024م - 11:58 م

الحدث الصدمة والموقف الاجتماعي

الشيخ حسن الصفار *

حينما يقع في المجتمع حدث سيء بطريقة غير مألوفة، فإنه يشكّل صدمة للرأي العام الاجتماعي، تهزّ وجدان أبناء المجتمع، وتستفزّ مشاعرهم، وتثير الألم والقلق في نفوسهم.

وهذا ما عاشه مجتمعنا المحلي على إثر وقوع الحادث الأليم في صفوى، حيث أقدم شاب مصاب بآفة تعاطي المخدرات على محاصرة أبيه وأمه وأخيه وأخته في غرفة مغلقة، وأضرم فيها النيران ليقضي على حياتهم، في آخر ساعة من نهار صيامهم[1] .

التعاطي مع الصدمات

إن تعاطي المجتمع مع مثل هذه الصدمات يختلف من مجتمع لآخر، فغالبًا ما تتفاعل مجتمعاتنا مع الحدث الصدمة عاطفيًا، بتداول الخبر في المجالس والكتابات، وإبداء مشاعر الألم والاستنكار، لمدة من الزمن، ثم يتجاوزون ما حدث دون اتخاذ أي إجراءات عملية تمنع تكرار المأساة بشكل أو بآخر.

لكن المجتمعات الحيّة الواعية، تستجيب لتحدي تلك الصدمات بطريق آخر، هو استثارة العقل، إلى جانب الانفعال العاطفي، واستنفار الإرادة في غمرة مشاعر الألم، لدراسة الحدث، ومعرفة خلفياته وأسبابه، ثم إطلاق مبادرات جمعية عملية تحصّن المجتمع من حصول تلك المخاطر والصدمات.

بل إن المجتمعات المتقدمة، ترصد أي ظاهرة اجتماعية سلبية، في المراحل الأولى لتشكّلها، من أجل تحجيمها ومحاصرتها، ومنعها من التكوّن والانتشار.

تجربة ملهمة

وأذكر هنا إحدى التجارب الملهمة التي حصلت أخيرًا في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن روادها والمؤسسين لها أحد أبناء مجتمعنا، وهو الدكتور رضي المبيوق[2] ، وقد تحدث عنها في زيارته الأخيرة للمنطقة قبل شهور.

يقول الدكتور المبيوق:

لاحظنا في عدد من الجامعات تعثّر وفصل عدد من الطلاب كل عام، فأثارت هذه الظاهرة بعض الأساتذة والباحثين، فعُقدت اجتماعات لبحثها، ومعرفة أسبابها، وطريقة معالجتها، وقررنا أن ننشئ مركزًا لدراستها، بمبادرة تطوعية، وأسميناه «مركز أبحاث معهد المستقبل «The Future Institute Research Canter»»، ومقره مدينة شيكاغو، وفيه أكثر من 15 باحثًا وباحثة، تأسس قبل ست سنوات.

وتركيز الدراسات هو على العوامل التي تساعد على الانتقال السلس، من مرحلة الثانوية إلى الجامعة، والتي تساعد الطالب على الاستمرار في الدراسة الجامعية وإنهائها بنجاح.

نجري دراسات قصيرة وبعيدة المدى، على ضوء ملفات الطلاب الذين تعثّرت دراستهم وانفصلوا عن الجامعة، ابتداءً من النُقلة الأولى للطالب من البيت للمدرسة في مرحلة الروضة، وتتبع الطالب لمدة 12 سنة، أي حتى إنهاء الثانوية والانتقال إلى الجامعة.

نركز على دور البيت، ودور المدرسين بشكل رئيس، وعلى دور المشرفين التربويين، وأيضًا دور الإداريين.

ونركز أيضا على دراسة العوامل النفسية للطالب نفسه، ودور الأقران «زملاء الدراسة» في عملية النقلة.

بعد إجراء البحوث، يتم نشرها في دوريات علمية، بما فيها المجلة العلمية المحكمة التابعة للمعهد، والتي يشرف عليها بروفسور وعضو مؤسس في المعهد، يعمل في جامعة ويسكونسن في مدينة ماديسون.

وكانت نتائج تلك الدراسات والتوصيات المنبثقة عنها مفيدة لجهة تقليص عدد الطلبة المتسربين من دراستهم الجامعية.

هذه المبادرة عينة من طريقة تعاطي المجتمع الأمريكي مع الظواهر السلبية التي تطفو على سطح المجتمع، حيث يتم التعامل مع الظاهرة بالبحث العلمي الميداني، وبالعمل الجمعي، وباتخاذ إجراءات للمعالجة.

مجتمعنا وخطر انتشار المخدرات

وبالعودة إلى الحدث الصدمة في مجتمعنا، فإن تعاطي المخدرات هو العامل الأساس في هذه الجريمة النكراء، والحدث الرهيب، والاستجابة الواعية لهذه الصدمة تستلزم استنفار الجهود لمواجهة هذا الخطر المحدق بأبنائنا وبناتنا.

لقد تسربت آفة المخدرات إلى مجتمعنا لأننا جزء من هذا العالم الذي راجت فيه تجارة المخدرات، وأصبح دخلها يقاس بمليارات الدولارات.

أشار تقرير نشره ”معهد نيولاينز“ للأبحاث الأمريكي، أن القيمة المحتملة لتجارة المخدرات التجزئة التي جرت مصادرتها عام 2021 تقدر بأكثر من 5,7 مليار دولار".

وهذا الرقم لِما تم مصادرته أما ما يتم ترويجه وتسويقه فهو أضعاف مضاعفة.

وأصبحت لهذه التجارة مافيات وعصابات تنشط على المستوى العالمي، ولم يسلم من اضرارها بلد من البلدان. رغم وجود جهود دولية لمكافحتها، وتصدي الأنظمة والحكومات المحلية لانتشارها.

وبلادنا من أشد البلدان حزمًا في مكافحة المخدرات، حيث تتوالى إعلانات وأخبار ضبط كميات ضخمة من المخدرات، بين وقت وآخر، من قبل الأجهزة الأمنية، ورجال الجمارك، وحرس الحدود.

ذكرت وكالة الأنباء السعودية «واس» في أخبار متفرقة أن الجهات المختصة أحبطت خلال شهر رمضان المبارك هذا العام 1443 هـ محاولة تهريب: «145597» حبة كبتاجون، و«1363921» قرص إمفيتامين مخدِّر، و«7,5» كيلو جرام من مادة الميثامفيتامين المخدر «الشبو»، و«773» جرامًا من مادة الحشيش المخدر، و«81» طناً و«569» كيلو جراماً من نبات القات.

كما تصدر أحكام القصاص على مهربي المخدرات، والذين يستخدمون مختلف الأساليب الشيطانية في التهريب، والتي لا تخطر على البال ولا يمكن اكتشافها، لو لا يقظة القوى الأمنية.

لم يعد الحديث عن خطر المخدرات على أبنائنا حديثًا عن خطر قادم، بل هو خطر محدق قائم، وإن كان البعض يرى أن دائرته محدودة، لكنه بطبيعته سريع الانتشار، وأرقام المراجعين للمستشفيات الخاصة بالمدمنين ليست قليلة، ولم يقتصر انتشاره على أوساط الشباب والرجال، بل غزا أوساط الفتيات والنساء، وقد حذّرت الجهات الأمنية مكررًا من انتشاره في أوساط طلاب وطالبات المرحلة المتوسطة والثانوية، وخاصة قبيل الامتحانات.

حيث تنشط جهات مشبوهة لإغراء الطلاب والطالبات، بتناول الحبوب المنشطة التي تساعد على السهر للمذاكرة، وهي منزلق خطير لآفة المخدرات.

وسبق أن أرسلت إدارة مكافحة المخدرات عبر رسائل الجوال تحذيرات حول نشاط مروجي المخدرات بالتزامن مع الامتحانات ووسائل الإبلاغ عنهم، إضافة إلى تحذيرها الطلاب عبر حساباتها على وسائل التواصل من حبوب الكبتاجون وآثارها الصحية وكثرة انتشارها خلال فترة الاختبارات، وتنبيه أولياء الأمور على الحرص على عودة أبنائهم للمنزل مباشرة بعد نهاية الاختبار لحمايتهم من رفقاء السوء.

الاعتراف بالمشكلة وإطلاق المبادرات

ويجب التذكير هنا بعدة نقاط:

أولا: التعامل الواقعي مع المشكلة بالاعتراف بوجودها، وإطلاق مبادرات أهلية لمواجهتها بتشكيل لجان مختصة، تحت مظلة الجمعيات الرسمية، ومراكز التنمية، أو قيام جمعيات أهلية جديدة بترخيص رسمي. يكون دورها نشر التوعية والتثقيف في أوساط الفتيان والفتيات، وإلفات نظر العوائل والأسر إلى الأعراض والمؤشرات التي تظهر على من يتورط بهذا البلاء، والمساعدة على العلاج المبكر، فإن إنقاذ المتعاطين والمدمنين أمر ممكن، وهناك تجارب ناجحة للمتعافين من المخدرات.

وفي سجلات مستشفى الأمل مدمنون تائبون تحولوا إلى أعضاء فاعلين في المجتمع، وعملوا كمرشدين يساعدون المدمنين على التخلص من المخدرات حتى يعيشوا أسوياء مثل غيرهم.

ونشير هنا إلى بعض النماذج من تجارب العمل الأهلي على المستوى الوطني.

الجمعية الخيرية للمتعافين: في عام 2007م تأسست الجمعية الخيرية للمتعافين من المخدرات والمؤثرات العقلية «تعافي» ومقرها الدمام، وتتطلع لأن تكون جمعية فاعلة وبصورة مؤثرة في نشر التوعية بين أفراد المجتمع، ومساعدة من يعاني منهم من شبح تعاطي المخدرات بالطريقة الصحيحة، واحتواء المتعافين من الإدمان والأخذ بأيديهم إلى طريق النجاح ومساعدة أسرهم.

جمعية كفى: تأسست جمعية كفى للتوعية بأضرار التدخين والمخدرات عام 1425 هـ وتهدف إلى نشر الوعي بمخاطر التدخين والمخدرات ورعاية وتأهيل المتعافين من المخدرات ببرامج نوعية وهادفة، وتعزيز درو أولياء الأمور ليكونوا قادرين على حماية أبنائهم من مخاطر التدخين والمخدرات.

وقد احتفت الجمعية في شهر صفر 1443 هـ في منطقة مكة، بتخريج 17 متعافياً من الإدمان بمشاركة أسرهم ومحبيهم، وهي الدفعة الثالثة للمركز.

وهناك برامج على المستوى العالمي ومنها:

زمالة المدمنين المجهولين: انبثقت من برنامج زمالة مدمني الكحول المجهولين الذي ظهر في أواخر الأربعينات، وبدأت اجتماعاتها أولاً في لوس أنجلوس بولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية أوائل الخمسينات.

اليوم زمالة المدمنين المجهولين حقاً منظمة عالمية متعددة اللغات تعقد ما يفوق 70000 اجتماع في الأسبوع في 144 دولة. وتتوفر الآن كتب الزمالة وكتيبات المعلومات الخاصة بزمالة المدمنين المجهولين ب 55 لغة وجاري ترجمتها إلى 16 لغة آخري.

الاستنفار الاجتماعي والتصدي للمروجين

ثانيًا: التصدّي بحزم لمروجي المخدرات، بنبذهم اجتماعيًا، والابلاغ عمّن يقوم بهذا الاجرام للجهات المختصة بمكافحة المخدرات.

ثالثًا: الاستنفار الاجتماعي والتعبئة الوطنية، باعتماد برامج ممنهجة لتثقيف النشء وتحصينهم منذ السنوات الأولى من الدراسة، وتعزيز دور المدرسة والبيت، والمجتمع، ووسائل الإعلام ومنابر الخطاب الديني.

إنه لا ينبغي لاحد في المجتمع أن يرى نفسه وعائلته بمنأى عن آثار هذا الخطر، فإن عدوى الأمراض الأخلاقية لا تقل عن عدوى الامراض الجسمية، إن وجود أي مصاب بهذا الداء في المجتمع يشكل خطرًا على المجتمع كله.

لذلك يقول تعالى: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [سورة الأنفال، الآية: 25].

يجب أن يتعامل المجتمع مع هذا الموضوع بجدّية، وأن تتظافر الجهود الأهلية مع دور الأجهزة الرسمية المختصة.

حتى لا نستيقظ كل صباح على فاجعة مماثلة لما حدث.

الأسرة ودورها الأساس

رابعًا: ضرورة الانتباه واليقظة في كل أسرة للاهتمام بأوضاع أبنائها، ومتابعة امورهم، والاقتراب منهم، والانفتاح عليهم، فإن أي لحظة اغفال أو اهمال قد تعني الوقوع في الخطر.

إن بعض الآباء قد ينشغل عن رعاية أبنائه بحضور المجالس الليلية والديوانيات، أو كثرة الأسفار، أو سائر الهوايات، بينما قد تختطف ابناءه الجهات الفاسدة، أو شبكات التواصل الاجتماعي، وحينئذٍ تتحول حياة الأسرة كلها إلى جحيم.

وتتحدث الدراسات والتقارير عن بروز بعض الدلائل والمؤشرات على من يبدأ بتعاطي المخدرات، فعلى الأسرة أن تلاحظ سلوك أبنائها.

ومن تلك المؤشرات:

1/ ارتفاع وتيرة صرف المال عند الولد، بأن يطلب من أهله المزيد من المال. وقد تختفي بعض المبالغ والحاجيات من البيت، لقيام الولد المتعاطي بسرقتها لتمويل شرائه للمخدرات.

2/ حالات العزلة والانكفاء لحاجته لذلك أوقات التعاطي.

3/ التغيرات المزاجية بسرعة الغضب، أو استخدام العنف، والإساءة للوالدين.

4/ دخول أصدقاء جدد على حياة الولد.

5/ كثرة الغياب عن المنزل.

6/ انخفاض الاهتمام الدراسي.

7/ عدم الاهتمام بالمظهر والاناقة.

وبعض المتورطين في تعاطي المخدرات قد لا تبدو عليهم أعراض واضحة، كما لا يعني وجود عرض من هذه الأعراض أو حتى عدد منها حتمية ابتلاء الولد بالمخدرات، لكن ذلك يستوجب الاهتمام والمتابعة للتأكد من الأمر.

[1]  حدث الحريق يوم الخميس 20 رمضان 1443 هـ الموافق 21 أبريل 2020م، وكان ضحيته: الأب زهير علي سلمان الملا، وزوجته صديقة السيد حسين آل درويش، وابنهما محمد «29 سنة»، وابنتهما عقيلة «17سنة».

[2]  من مواليد العوامية عام 1954م، حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ماديسون ويسكانسون بمرتبة الشرف الأولى عام 1990م، أستاذ ورئيس لقسم علم النفس في جامعة شمال ولاية أيوا الأمريكية، أشرف على أكثر من 130 رسالة ماجستير ودكتوراه، له أبحاث مطبوعة باللغة العربية والانجليزية
خطيب وكاتب سعودي «القطيف»