قراءة في كتاب: «عصر النهضة.. كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟» للمفكر زكي الميلاد
يعد كتاب «عصر النهضة.. كيف انبثق؟ ولماذا أخفق؟» للمفكر زكي الميلاد الصادر في طبعته الأولى سنة 2016م عن النادي الأدبي بالرياض والمركز الثقافي العربي في بيروت من الكتب القيمة في حقله الفكري النهضوي، وفي دراسة عصر النهضة في مجاله العربي متصلا بمجاله الإسلامي، وأرى أنه يستحق تسليط الضوء عليه، والتذكير به، وذلك لأهمية موضوعه، وكونه يبحث عن عصر يمثل عصرا قريبا لعصرنا - حسب قول المؤلف - يفصلنا عنه قرنا ونصف قرن من الزمن، حسب الرؤية التي تؤرخ له في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وكونه من جهة أخرى يمثل عصرا من أجود عصورنا الحديثة خطابا ورجالا، أدبا وحركة، فهو العصر الذي وصفته الأدبيات العربية والإسلامية بعصر النهضة واليقظة والإصلاح والتجديد والتنوير.
احتوي الكتاب على مقدمة وخمسة فصول، الفصل الأول جاء بعنوان: «عصر النهضة.. كيف انبثق في المجال العربي الحديث؟» وتطرق فيه الكاتب لخمسة محاور أساسية هي:
1- عصر النهضة والأطروحات الأربع
2- عصر النهضة والحملة الفرنسية
3- عصر النهضة والنهوض الداخلي
4- عصر النهضة وابن خلدون
5- ملاحظات ومناقشات
وبعد بيان وتوصيف للأطروحات الأربع التي حاولت تفسير كيف انبثق عصر النهضة في المجال العربي الحديث، قدم المفكر الميلاد بعض الملاحظات والمناقشات جاءت بهذا النحو:
أولا: يرى الميلاد أن بحسب التقسيمات الفكرية، فإن الأطروحة الأولى التي تربط عصر النهضة بالحملة الفرنسية على مصر، هذه الأطروحة بصورة عامة هي أقرب إلى النزعة الليبرالية، وأصحاب هذه النزعة هم الأكثر دعما وتأييدا وتوافقا مع هذه الأطروحة. والأطروحة الثانية التي تربط عصر النهضة بالنهوض الذاتي في القرن الثامن عشر، فهذه الأطروحة بصورة عامة هي أقرب إلى النزعة الإسلامية إصلاحيين وتقليديين، وأصحاب هذه النزعة هم الأكثر دعما لها وتأييدا وتوافقا.
وبالنسبة إلى الأطروحة الثالثة التي تربط عصر النهضة بابن خلدون ومقدمته، فهذه الأطروحة لم تشتهر كثيرا حتى هذه اللحظة، وما زال مجالها التداولي ضيقا ومحدودا، لكنها بصورة عامة هي أقرب إلى النزعة الإسلامية التي يعبر عنها الدكتور فهمي جدعان. وأما الأطروحة الرابعة التي تربط عصر النهضة بالأفغاني وحركته ودوره، فهذه الأطروحة هي أقرب إلى النزعة الإسلامية الإصلاحية، وأصحاب هذه النزعة هم الأكثر دعما لها وتأييدا وتوافقا.
ثانيا: توقف الميلاد مناقشا الأطروحة الأولى معتبرا أن مشكلتها أنها تستبطن حرجا نفسيا لا يحتمل ولا يطاق، وحرجا أخلاقيا وثقافيا أيضا، وذلك لكون أن هذه الأطروحة تربط عصر النهضة بحملة فرنسية أجنبية، وصفت في الكتابات العربية المعاصرة تارة بالاستعمارية، وتارة بالحملة الصليبية الثامنة، وتارة بالحرب الصليبية الجديدة، إلى جانب أوصاف أخرى، فهل يؤرخ ويدوّن ويقال إن عصر النهضة الحديث عند العرب والمسلمين يبدأ بحملة استعمارية أو بغزو عسكري أو بتدخل أجنبي!
ثالثا: وعن نقاشه حول الأطروحة الثانية، يرى الميلاد أن هذه الأطروحة كشفت وعبرت عن حالات من النهوض، ظهرت وحصلت في أزمنة وأمكنة معينة من البيئات العربية والإسلامية خلال القرن الثامن عشر، لكن هذه الحالات من النهوض لم ينبثق عنها عصرا جديدا، يطلق عليه عصر النهضة أو عصر اليقظة، وذلك لأن هذه الحالات جاءت متفرقة ومتباعدة، ولم ينبعث منها روح عام يغير من الوعي العام في الأمة برمتها، أو في أجزاء واسعة منها.
رابعا: وبالنسبة لأطروحة الدكتور فهمي جدعان، فهي في نظر الميلاد أطروحة غير متسالم عليها، وذلك من جهتين، هما:
الجهة الأولى: إن هذه الأطروحة لا تكشف عن انبثاق أزمنة حديثة أو عصر حديث، بقدر ما تكشف عن بزوغ رجل له سمات الحداثة، ويعبر عن روح الأزمنة الحديثة، ونعني به ابن خلدون الذي أنجز بمقدمته فتحا مهما في حقل الدراسات الاجتماعية والتاريخية، فتحا أفاد منه التراث الإنساني برمته، فابن خلدون كان حداثيا لكنه لم يسهم آنذاك في انبثاق أزمنة حديثة، وعصره وما بعده لم يكن عصرا عرف بالنهضة، ولم تنبثق منه أزمنة الحديثة.
الجهة الثانية: في كتابات الدكتور جدعان نلاحظ أن هناك ما يكشف عن حالة من التعارض مع أطروحته التي ترى أن الأزمنة الحديثة أو العصر الحديث يبدأ مع ابن خلدون، ومن هذه الدلائل حين تساءل بقوله: ما هو على وجه الدقة الأمر الذي أدخل الدولة العثمانية ومعها العرب في العصور الحديثة؟ وأي وعي أنتج هذا الحدث لدى المفكرين العرب المسلمين بالذات؟ وأجاب الدكتور جدعان بما نصه «من الواضح أننا لن نضيف شيئا ذا بال حين نقول بكل بساطة، إن ما أدخل الدولة العثمانية والأقطار العربية في العصور الحديثة، هو التوغل العسكري العثماني في أوروبا من ناحية، والتوغل الأوروبي العسكري أيضا في أقطار الدولة العثمانية من الناحية المقابلة، وما الأثر الثقافي إلا تابع لهذا التوغل وذاك التوغل المضاد».
خامسا: بقيت الأطروحة الرابعة التي تربط عصر النهضة بالأفغاني الموصوف تواترا بموقظ الشرق وباعث نهضة الشرق، هذه الأطروحة هي التي امتلك الميلاد تفسيرا لها، ويتحدد هذا التفسير في النقاط الآتية:
1- جاء الأفغاني وبعث روحا جديدا في الأمة، روحا كان له قوة التأثير والاستلهام، ومتى ما ظهر في الأمم والمجتمعات روحا جديدا أحدث فيها يقظة ونهوضا، وكل اليقظات التي ظهرت كانت بتأثير انبعاث مثل هذا الروح الذي يقلب المزاج العام وينتقل به من حال إلى حال، من حالة الضعف إلى حالة القوة، ومن حالة السكون إلى حالة الحركة، ومن حالة التفرق إلى حالة الجمع.
2- مثل الأفغاني جسرا للربط والتواصل الفعال بين المراكز الكبرى والمؤثرة في ساحة الأمة، وهي المراكز الثلاثة المعروفة: الأستانة مركز الخلافة العثمانية وطهران والقاهرة، ومتى ما اتصلت هذه المراكز وترابطت كان بالإمكان دفع الأمة نحو اليقظة والنهوض.
3- اتخذ الأفغاني من الأمة ساحة لنشاطه وحركته الفاعلة والدؤوبة، وكان في عصره من أكثر المصلحين حركة وتنقلا وتأثيرا في ساحة الأمة، ولم يعرف عنه الاستقرار والتوطن في مكان واحد، أو في بلد معين، فقد تنقل بين إيران والعراق وأفغانستان ومصر وتركيا والهند وفرنسا، وترك أثرا وتأثيرا مهما وكبيرا في كل مكان حل به، وهذا ما وثقه لاحقا الكتاب والمؤرخون، عربا ومسلمين وأوروبيين.
4- في حركته تواصل الأفغاني مع شرائح وفئات واسعة، علماء ومثقفين وأدباء وصحفيين وسياسيين، من الوسطين الديني والمدني، ومن الفريقين السني والشيعي، ومن الديانتين الإسلامية والمسيحية، في سابقة غير معهودة بهذا المستوى وبهذه الدرجة من التواصل والتعاون والانفتاح.
الفصل الثاني حمل عنوان: «الإسلام والمدنية.. تقدم وتراجع فكرة المدنية بين عصرين» تناول فيه المفكر زكي الميلاد المحاور الخمسة الآتية:
1- فكرة المدنية وأزمنة التقدم
2- الزمن الأول: الدين والاقتباس من المدنيات الأخرى
3- الزمن الثاني: نفي التعارض بين الدين والمدنية
4- الزمن الثالث: المدنية والاقتراب من الإسلام
5- فكرة المدنية وكيف حصل التراجع؟
يرى الكاتب زكي الميلاد أن العلاقة بين الإسلام والمدنية قد تعيرت في ساحة الفكر الإسلامي، وتراجع الاهتمام بهذه المسألة، ولم تعد تمثل هما حقيقيا، أو تراكما متصلا كما حصل في الفترة الماضية، والأكثر أهمية في ذلك، أنه لم يعد يرتبط بهذه المسألة رجال مفكرون ومصلحون من أمثال الطهطاوي والتونسي ومحمد عبده ومحمد فريد وجدي إلى جانب آخرين.
الاستثناء الوحيد في هذا الشأن، في نظر الميلاد هو ما مثله مالك بن نبي الذي اعتنى بفكرة الحضارة، وأعاد لها الاهتمام، وقدم عنها أجود تحليل في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، ومعه تحول الاهتمام الجاد من فكرة المدنية إلى فكرة الحضارة، ويعد هذا التغير من التغيرات الفكرية المهمة التي يمكن أن يؤرخ لها في المجال الفكري الإسلامي المعاصر.
ويعتقد الميلاد أن السؤال الجوهري الذي بحاجة إلى توقف ونظر، هو: ما تفسير وتحليل هذا التراجع الحاصل في العلاقة بفكرة المدنية في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر؟
أمام هذا السؤال توقف الكاتب الميلاد تجاه نظرية أشار إليها بعض الباحثين المعاصرين من الممكن الاستناد إليها في تفسير هذا التراجع، وتعرف هذه النظرية بنظرية القطيعة بين مرحلتي الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر. كشف عن هذه القطيعة ما ظهر بين هاتين المرحلتين من مفارقات معرفية كبيرة، أكدتها المقارنات والمقاربات الفكرية والثقافية، التي أظهرت أن الفكر الإسلامي في مرحلته الحديثة الممتدة من النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى عشرينات القرن العشرين، كان على درجة من التميز والتقدم، يفوق ما كان عليه في مرحلته المعاصرة.
تستدعي هذه النظرية، في تصور الميلاد البحث عن أمرين:
الأمر الأول: البحث عن منابع التقدم والتميز في الفكر الإسلامي ومرحلته الحديثة.
الأمر الثاني: البحث عن عوامل وأسباب القطيعة التي قطعت الفكر الإسلامي المعاصر عن مرحلته الحديثة..
وبتأثير هذين السياقين، حصلت هذه القطيعة بين مرحلتي الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، التي أدت إلى تراجع الاهتمام بإشكالية النهوض والتقدم، الإشكالية التي تقع فكرة المدنية في صلبها وصميمها.
أما الفصل الثالث فجاء بعنوان: «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» وتطرق فيه الميلاد إلى العناصر التالية:
1- سؤال النهضة الأهمية والقيمة
2- سؤال النهضة البداية والرؤية
3- سؤال النهضة والنقد العربي المعاصر
4- ملاحظات ونقد
وتوقف المفكر الميلاد في هذا الفصل مستطلعا سؤال شكيب أرسلان ومناقشا، ونعني به السؤال الشهير الموسوم بعنوان: «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟»، الذي جاء عنوانا لكتابه، وبعد فحص ونظر أشار الكاتب إلى بعض الملاحظات التقويمية منها:
أولا: يرى الميلاد أنه لو أردنا البحث عن ماذا بقي من كتاب أرسلان، لجاز لنا القول إن أكثر ما بقي منه، هو سؤاله الذي ما زال حاضرا ومتحركا، وما زال يستقطب الجدل والنقاش في ساحة الكتاب والباحثين على تعدد وتنوع خطاباتهم ومنهجياتهم، واختلاف وتباعد ميولهم وأذواقهم الفكرية والثقافية، ومع تقادم وتعاقب أزمنتهم وأجيالهم.
ثانيا: في تحليل الميلاد إن الذي جعل سؤال أرسلان يكون باقيا وحاضرا ومؤثرا، هو طبيعته المركبة، وطابعه المقارن، ولو لم يكن بهذه الطبيعة وبهذا الطابع لما اكتسب صفة البقاء والحضور والتأثير، ولو جاء السؤال مكتفيا بالمقطع الأول لماذا تأخر المسلمون؟ لكان سؤالا عاديا من جهة، وناقصا من جهة أخرى.
ثالثا: يرى الميلاد أن سؤال أرسلان يضعنا أمام جدلية الحديث عن الذات والآخر، في إطار العلاقة بين التأخر والتقدم، تأخر الذات وتقدم الآخر، وهذه هي إحدى صور العلاقة، ومن أكثرها أهمية وفاعلية، لأنها تقارب الإشكالية الكبرى في الأمة، إشكالية النهضة والتقدم، الإشكالية التي ينبغي أن تتقدم على جميع الإشكاليات الأخرى، وتكون حاكمة عليها، وناظمة لها. وحسب هذه الجدلية، لا يكفي النظر إلى الذات، والانغلاق عليها، وحصر الحديث في لماذا تأخر المسلمون؟ بل لا بد من النظر إلى الآخر، والتعرف إليه، والاتعاظ منه ومن تجربته، وتوسعة الحديث ليشمل أيضا البحث عن لماذا تقدم غيرنا!
وعن الفصل الرابع الذي أعطاه الكاتب عنوان: «إخفاق النهضة.. أطروحات ومناقشات» وقد ناقش فيه العناصر الآتية:
1- إخفاق النهضة.. أطروحات ثلاث
2- كبوة الإصلاح.. والإجهاض المستمر
3- الفكرين الإسلامين الحديث والمعاصر من التقدم إلى الهوية
4- القطيعة الفكرية من الإصلاحية إلى الإحيائية
5- الأطروحات والاتجاهات الناقدة
6- ملاحظات ونقد
تحدث المفكر الميلاد في هذا الفصل عن ثلاث أطروحات جاءت لتفسير ما عرف بإخفاق النهضة في المجال العربي، وبعد فحص وتحليل أشار الكاتب إلى بعض الملاحظات المنهجية والمعرفية، وهي على النحو الآتي:
أولاً: إن الأطروحات الثلاث التي عرض لها الكاتب هي في نظره من جملة الأطروحات الفكرية والنقدية، التي حاولت النظر في العلاقة ما بين مرحلتي الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر، الحديث الذي يمتد ما بين النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى عشرينات القرن العشرين، والمعاصر الذي يمتد من ثلاثينات القرن العشرين إلى نهاية القرن وما بعده، وتفسير حالة التراجع التي حصلت في مسارات هذا الفكر، والذي اتخذ حسب هذه الأطروحات خطًّا منكسراً ومتقهقراً. وتنتمي هذه الأطروحات الثلاث إلى المجال الفكري العربي المعاصر، ويتحدد ظهورها وتكونها خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين.
ثانياً: لاحظ الكاتب أن هناك تشابهاً كبيراً بين هذه الأطروحات الثلاث، إلى جانب التقارب الزمني في طرحها والحديث عنها، تشابهاً يظهر كما لو أن هذه الأطروحات الثلاث هي أطروحة واحدة، جرى الحديث عنها بصيغ مختلفة بعض الشيء بين هؤلاء الثلاثة. متسائلا: هل ترجع هذه الأطروحات الثلاث في أصلها إلى أطروحة واحدة، وتنسب ابتكاراً واكتشافاً إلى شخص واحد، ومن يكون هذا الشخص بين هؤلاء الثلاثة! وهل يقبل هؤلاء الثلاثة بانتساب هذه الأطروحة لواحد منهم، ويُقرّون له ويعترفون بحق السبق في الابتكار والاكتشاف، وهذا ما لم يحدث حتى هذه اللحظة!
ثالثاً: ظل هؤلاء الثلاثة «حسن حنفي ورضوان السيد وعبد الإله بلقزيز» يتحدثون عن أطروحاتهم باستمرار في مقالات وأوراق ومؤلفات، ولم يتوقفوا من الحديث عنها، والإشارة إليها، والتنويه بها، قبضاً وبسطاً، وبقوا على هذا الحال سنوات عدة، تخطَّت عند كل واحد منهم عقداً من الزمان، وهم يعلمون بهذا الأمر، ولم يكن بعيداً عن إدراكهم، أما وجه الملاحظة في الكاتب أن هؤلاء الثلاثة ظلوا يُكرِّرون الحديث عن هذه الأطروحات، من دون التنبيه على هذا التكرار، ولا حتى الإشارة إليه، والكشف عن حكمته والحاجة إليه، والدواعي التي دعت له، وبعثت عليه.
رابعاً: منذ الإعلان عن هذه الأطروحات، لم يُحدِّثنا أصحابها ولم نعرف منهم ما حصل فيها من تغيّرات وتطوّرات بنيوية أو منهجية أو مفاهيمية أو غير ذلك، حسب وجهات نظرهم، والجانب الأكيد في تصور الكاتب أن صورة هذه الأطروحات قبل عشر سنوات على الأقل، هي غير صورتها بعد هذه الفترة في رؤية وتقدير أصحابها، لكن هؤلاء لم يتحدَّثوا عن هذا الجانب، ولم يشرحوه لغيرهم، مع حديثهم المتكرر عن هذه الأطروحات.
خامساً: علمنا كما يقول الكاتب أن هؤلاء الكتاب الثلاثة تحدثوا كثيراً عن أطروحاتهم، ونعلم يقيناً أنهم يعرفون بعضهم جيداً، ولا تنقصهم المعرفة بأطروحات بعضهم، بما في ذلك هذه الأطروحات المقصودة، لكن الذي لا نعلمه لماذا لم يتحدَّث هؤلاء عن أطروحات بعضهم بعضاً، مع ما بينها من تشابه يصل إلى درجة التطابق، وبشكل يظهر هذه الأطروحات وكأنها أطروحة واحدة.
سادساً: لا يمكن تبرئة هذه الأطروحات في رأي الكاتب من حالة الانتقائية، التي ظهرت وتجلت في طريقة اختيار وترتيب الأسماء والنماذج المشار إليها في هذه الأطروحات، والتي مثَّلت الأساس في استنباط هذه الأطروحات، وفي طريقة البرهنة عليها أيضاً. وهي الأسماء التي تبدأ من الأفغاني وتنتهي إلى عمر عبدالرحمن، عند كل من حسن حنفي ورضوان السيد، وهي الأسماء نفسها عند عبد الإله بلقزيز سوى أنه تقصَّد إضافة أسماء مغاربية، حرصاً منه - على ما يبدو - على ربط أطروحته بهذه البيئة التي ينتمي إليها، ومن أجل لفت الانتباه إلى هذه البيئة الغائبة والمغيبة في كتابات ودراسات المشرقيين، ومن هذه الأسماء التي أضافها بلقزيز محمد بلحسن الحجوي في مرحلة الإصلاحية الإسلامية، وعبدالسلام ياسين في مرحلة الصحوة الإسلامية.
سابعاً: بحسب الأسماء والنماذج والتجريبات والبيئات التي رجعت واستندت إليها تلك الأطروحات، بهذا اللحاظ فإن هذه الأطروحات تكون قد تحددت في نطاق المجال الإسلامي السني، وغفلت وتجاهلت المجال الإسلامي الشيعي، الذي له أسماؤه ونماذجه وتجريباته وبيئاته، التي تتصل بالمجال الإسلامي العام ولا تنفصل.
هذه بعض الملاحظات النقدية على هذه الأطروحات، والتي تؤكد أن العلاقة بين المرحلتين الحديثة والمعاصر في الفكر الإسلامي، ما زالت بحاجة إلى مزيد من الفحص والنظر.
وأما الفصل الخامس والأخير والذي جاء بعنوان: «عصر النهضة.. دراسات ومناقشات» فقد ناقش العناصر التالية:
1- عصر النهضة.. ثلاث دراسات
2- الدراسة الأولى: الفكر العربي في عصر النهضة
3- الدراسة الثانية: المثقفون العرب والغرب
4- الدراسة الثالثة: أسس التقدم عند مفكري الإسلام
5- مقاربات وموازانات
6- ملاحظات ونقد
ناقش الكاتب الميلاد في هذا الفصل ثلاث دراسات عدت من أهم المؤلفات التي درست عصر النهضة في المجال العربي الحديث، وهي كتاب «الفكر العربي في عصر النهضة» لمؤلفه ألبرت حوراني، وكتاب «المثقفون العرب والغرب» لمؤلفه هشام شرابي، وكتاب «أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم الحديث» لمؤلفه فهمي جدعان، وبعد فحص وتحليل إشارة الكاتب إلى بعض الملاحظات النقدية والنقاشية، ومنها:
أولاً: يرى الميلاد أن في دراسة حوراني هناك بقايا أثر للاستشراق، مع أنه - حسب قوله - لا يحب تعبير الاستشراق، ويعتبر نفسه مؤرخاً اجتماعيًّا وفكريًّا، يستخدم المقاييس الأوروبية الغربية في دراساته، ويرى أن معظم الدراسات التاريخية المهمة حول العرب هي ذات مصدر أوروبي وأمريكي.
ثانياً: امتزج في دراسة حوراني التاريخ الثقافي بالتاريخ السياسي، وطغى في بعض الحالات التاريخ السياسي على التاريخ الثقافي، وحصل ما يشبه الإسهاب والاستغراق في بعض التفاصيل السياسية، التي كادت تظهر الكتاب بغلبة الطابع السياسي عليه، وبالشكل الذي يخرجه عن كونه كتاباً في التاريخ الثقافي، أو ما بين الثقافي والسياسي.
ثالثاً: بالنسبة لدراسة شرابي، يرى الكاتب أنه قد غلب عليها الطابع الأيديولوجي من جهات عدة، بنيةً ومكوناتٍ، شكلاً ومضموناً، تفسيراً وتحليلاً، لغةً وبياناً، وهذا ما لم يخفه شرابي أو يتكتم عليه، إلى درجة أنه جعل من كلمة أيديولوجيا واحدة من أكثر الكلمات حضوراً وتداولاً في كتابه، وبالشكل الذي أصبح من الممكن النظر إلى هذه الكلمة بوصفها واحدة من الكلمات المفتاحية في الكتاب، خاصة وأنها وردت في عناوين فصلين من فصول الكتاب الثمانية.
رابعاً: إذا كانت دراسة شرابي غلب عليها الطابع الأيديولوجي، فإن دراسة جدعان في نظر الكاتب قد غلب عليها الطابع النصوصي، الطابع الذي من شدة ظهوره حرص جدعان التنبيه عليه في مقدمة الكتاب، معتبراً أنه قد استكثر من النصوص، وهذا الأمر بالنسبة إليه كان مقصوداً لذاته، وذلك لكون أن هذه النصوص في اعتقاده ليست جثثاً هامدة أو ميتة، لا تستحق أكثر من أن تروى أو تحكى أو تشرَّح من بعيد، تشريحاً يجردها من كل واقع حي، فهذه النصوص في نظر جدعان ما تزال محتفظة بقدر كبير من الحياة.
خامساً: اعتبر الدكتور رضوان السيد أن دراسة جدعان تتفوق على دراستي حوراني وشرابي عمقاً وتفصيلاً، لكنه أخذ عليها أنها جاءت من دون أطروحة حاكمة. وبحسب هذا الرأي، فإن الدكتور السيد يرى أن دراسة جدعان هي دراسة عميقة ومفصلة، لكنها تفتقد إلى أطروحة تقف وراءها، وتنتصر لها، وبخلاف هذا الرأي تماماً، يرى الميلاد أن فكرة الأطروحة في دراسة جدعان هي أكثر وضوحاً وتجلياً من دراستي حوراني وشرابي، وأن إدراك جدعان ووعيه بفكرة الأطروحة هو الذي قاده وحفَّزه لإنجاز دراسته بهذا المستوى من الجهد، وبهذا الاتساع الكمي، وبهذا الامتداد الزمني.
هذه هي خلاصة ما قدمه الميلاد في كتابه عصر النهضة.