الإنسان المحرّك الأول
أثناء قراءتي للكتب والبحوث القانونية وجدت غالبها تركن العواطف على الجانب، ولا تتحدث عن مخلوقية الإنسان وطبيعته ولا لماذا خُلِق القانون في العالم، أو يحدث أن تذكر سبب تواجده لكن لا تشبع نظر القارئ في السبب الأول والذي منه تفضّل القانون في جميع المجتمعات.
وحتى وإن تحدثت عن أسباب تواجد القانون فهي لا تمد النظر للقارئ بصورة مرنة، ولا تكتب بشكل واضح أن الإنسان هو السبب الأول في تواجد القانون وفي تواجد كل شيء إذ أن الإنسان كائن فوضوي بطبيعته، ومهما تعددت طبيعة البشر تبقى الطبيعة الأولى للإنسان هي الفوضوية ومنها تنتج غالب الأمور التي يتحمّلها القانون ليصلح من حالها.
لا أعلم كيف يمكن للمرء أن يعتاد الكتابة بصورة رسمية دائمًا لكنّها الحقيقة للشخص القانوني؛ فالقانون بحتميته رسمي ولا يقبل زيف الكتّاب في الكتابة لكن سؤالي لماذا لا يتمتّع القانوني بذكر الإنسان؟
أقصد بصبّ عاطفته على موضوع مخلوقية الإنسان وطبيعته، فالإنسان هو المحرّك الأول في هذا العالم.
ولا يمكن أن يتواجد القانون ما لم يتواجد الإنسان ولا يمكن تواجد أي نظام أو أي اختراع على وجه الأرض ما لم يكن الإنسان حاضرًا، لذلك نجد القواعد القانونية لا تخاطب سوى الإنسان ”فهو وحده المكلف بمراعاة التكاليف القانونية، ولا يعتبر مجتمعًا إلا المجتمع الإنساني.“ ولأن بطبيعة الحال لا يمكن لدراس القانون أن يطبّق القوانين على الحيوانات والطيور لأنها لا تكوّن مجتمعًا يمكن اللجوء إليه أو النظر إليه بعين الاعتبار.
لذلك كنت قد كتبت حديثي الأول في مجال هذا التخصص عن ”الإنسان.“ والتي غالبية كتب القانون فقدت ذكره كمحرّك أساسي خُلِق القانون من أجله وهذه حقيقة لا تقبل التحريف أبدًا، فالقانون لا يحكم في هذا العالم كلّه إلا الإنسان؛ لأن حفنة الطين هذه تفعل المستحيل.
وذكري هذا القليل عن سبب تواجد القانون ليس بكافيًا إنما هو بحاجة للدراسة والبحث عنه أكثر؛ فالقانون في القراءة لا ينتهي، كلّما قرأت شعرت أنّك بحاجة للمزيد وهذا الأمر بالنسبة لي يجعل القارئ المهتم لا ينفك عن كونه فضولي لمعرفة القادم، فكل مرحلة تفتح المرحلة التي تليها، فمثلًا موضوع خلق القانون وتواجده، مقصده هو تهذيب سلوك الإنسان وإظهار الحق ونشر العدل
وما وجدته في الكتب القانونية من الجانب الآخر، «جانب العدل» أنها بالفعل تمضي على شاكلة الحق وعلى ما تنص القوانين عليه، فلا تهتم ما إذا كان المذنب قد تاب عن ذنبه عند محاكمته، فالقانون لا يرى النوايا.
كل من يخالف القانون يُعاقب بما تنص عليه القوانين المفروضة ولا يهتم القاضي بنوايا الجاني، بل يهتم بشكل القضية المطروحة وما تم إجماعه عليه من أدلة واضحة تبيّن الجرم.
في المحاضرة السابقة لي من الجامعة كان للدكتور محمد العالم من دولة السودان حديثه عن المدخل لدراسة القانون.
أول ما بدأ المحاضرة كشف لنا بحديثه أن القانون لا يهتم بالنوايا.
ظل هذا المطلع من الحديث عالقًا في رأسي، وبالفعل عندما بحثت عن هذا الأمر وجدت أن القانون لا ينظر للعفو بداخلك ولا بالنيّة التي بينك وبين الله، هو فقط ينظر للجرم المقدّم وعليه يحكم بالحق.
وعندما تمعّنت بمفهوم النيّة في القانون وجدت لها بعض التحريكات في بعض النصوص القانونية
فمثلًا: ”يعاقب الجاني على جريمة القتل قصدًا بالسجن المؤبد، بينما يعاقب عليها بالإعدام إذا اقترنت بنية سبق الإصرار والتصميم أو الترصد، ولا يعاقب القانون على الإصرار والتصميم إلا إذا ظهرت عليهما دلائل خارجية مثل شراء السلاح المستخدم في الجريمة وانتظار المجني عليه في مكانٍ ما.“
وهذا ما نصّت عليه المادة 236,237 وفقًا للقانون العماني. من كتاب ”المدخل لدراسة القانون وفقًا للقانون العماني.“
بيّن ذكر هذا الحديث أن النوايا المعمول بها تختلف عن النوايا الداخلية التي قد تصاحب الجاني بينه وبين ربه، وهذا الأمر لا يختص به القانون؛ فلا يمكنك أن تخبر القاضي عن مدى مصداقيتك إذا ما كنت تملك دليل مصداقيتك وهذا الأمر يعني أنك أمام القانون مُجبر على أن تثبت صحة قولك بالدليل عدا ذاك فلا يُرى.
لذلك وفي كل جلسة حقوق لك، سواءً كانت ندوة أم محاضرة، لا بد أن تركن عواطفك جانبًا، فالقانون والحق لا يهتم بحزن الجاني ولا بندمه طالما أنّه ثبتت إدانته.
”ولذلك القانون لا ينظّم من الإنسان إلا سلوكه الخارجي، باستبعاد النوايا الباطنة والمشاعر النفسية واختلاجات الضمائر التي لا تظهر إلى الحيز الخارجي متمثلة في فعل أو قول فالقانون لا يعاقب مثلًا على مجرد التفكير في ارتكاب الجرائم.“
اهتمام القانون في سلوك الإنسان اهتمام واضح فلا يمكن للقانون بحركته أن يعدل سلوك غير سلوك الإنسان، فالقوانين والنصوص لا تخاطب إلا الإنسان ومخالفة الإنسان للقانون تشكّل عواقب له فلا يأمن بعد ذلك إذا ما كان بريئًا.
القانون يهذّب السلوك، سلوك الإنسان المرتبط بالقرآن والشريعة الإسلامية فلو نظرنا للحقائق لوجدنا الأغلب لا يمضي على ما يشكّله الدين من أوامر نهي أو أوامر إتّباع، إلا أن تواجد القانون يغيّر الأمور، لأن القانون بدوره يحكم تصرفات الإنسان على وجه العالم.