عن الأخلاقيات في الطب
بعد أن قدَّم البروفيسور إيفان سولتيز محاضرته في شيكاغو بمؤتمر الاجتماع السنوي للجمعية الأمريكية لأمراض الصرع، وكانت عن قدرات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، سواء بالإشراف البشري أو دونه، في إمكانية تثوير مجال علوم الصرع والقفز به مراحل عديدة للأمام. كانت محاضرته مبنية على أبحاثه التي يجريها على الحيوانات، فسأله سائل عما إذا كان من الأخلاقي تعريض الحيوانات لتشنجات صرعية قد يجادَل في مدى ضرورتها، بحسب رأي السائل. استفزنا السؤال، أنا وبعض زملائي من الحضور، مما دفعنا لنقاش هذا فيما بعد.
فمنا من كان لا يرى كرامة للحيوان بتاتًا، وبالتالي لا يؤمن له بأية حقوق، ومنا من يرى أنه من الصلف اعتبار كرامة البشر أولى من كرامة الحيوان، ومنا من يرى أن للحيوان كرامة، إنما يراها أدنى من كرامة الإنسان، وأحدنا، يجد أن كرامة الحيوان أولى من كرامة البشر لإيمان هذا الشخص بالكليشيه الوبئ أنه يستحيل على الحيوان أن يعتدي لغرض الاعتداء. توسع النقاش بعد ذلك ليتناول الأخلاقيات، فبهذه الاختلافات على موضوع كهذا، كيف للباحث أن يتم أبحاثه دون أن يوصم باللاأخلاقياتية مما قد يعرض كل جهده للهدر من قبل المجتمع العلمي. وحين اشتد النقاش بين زميلين حتى انحصر بينهما، حاولت أن أتأمل تاريخي الشخصي مع كلمة «أخلاقيات»، فرحت أتذكر كلية الطب في جامعة الملك سعود حين كنت طالبًا في مقاعدها، كنت قد استغربت كلمة «أخلاقيات» في مقرر «أخلاقيات الطبيب المسلم» التي لم تألفها أذني، وكان بعض الزملاء حينها يجادل مشككًا في جدوى هذه المادة، حيث برأيه أن الأخلاق لا تدرس! ويظهر هنا التسليم ضمنًا بأن الأخلاقيات والأخلاق هي مرادفتين. وهذا ليس حصرًا في الزملاء بالمناسبة، إنما كثير من الدوائر الأكاديمية يستخدم الكلمتين كمرادفتين. فكلمة «أخلاقيات» لا وجود لها في قواميس العرب التراثية، وهي ترجمة لكلمة «ethics» ذات الأصل اليوناني، والتي تحمل مضامين عدة، ولكن المعنى المتناول في هذه المقالة هو مجموعة المبادئ الأخلاقية التي تعتنقها مجموعة مهنية ما وتعمل على إلزام المهنيين بها. وبالرغم من أن فارقًا رئيسيًا بين الأخلاق والقانون هو تهييب القانون بقوة فرض العقوبات بينما الأخلاق تتوسل بالنازع الداخلي، إلا أن الأخلاقيات، من ناحية عملية، تشبه القانون في ذلك حيث باسمها تفرض العقوبات على يد المجتمع المهني، هذا ممثلاً بمؤسسة ما تمنحها الحكومة صلاحيات مثل منح رخصة مزاولة المهنة أو سحبها أو الإيقاف عن العمل وما إلى ذلك، لكن في الوقت نفسه، إذا خولف الدليل الأخلاقياتي دون أن يخالف القانون، فلن يكون هناك عقوبة قضائية أو حكومية!
حينما اطلعت على المقرر آنذاك، وجدته يؤسلم القواعد الأخلاقية الغربية المنسوبة لليونان مثل «عدم الإضرار بالمريض» و» نفع المريض» و» العدالة» بتقديمها بشكل نظري بارد وبلبوس ديني عبر تذييلها بنصوص دينية من القرآن والسنة للبرهنة على أنها مبادئ إسلامية، ومن ثم يقدم الأحكام الفقهية التفصيلية المتعلقة بمزاولة الطب مثل «أحكام العورة» «والإجهاض» بشكل عملي يحض القارئ للاشتباك مع المادة الفقهية والعمل بها. فالمقرر فقهي في النهاية أكثر منه أخلاقياتي، يوصيك بالعمل بالفتاوى الفقهية الموجودة وبالاستفتاء الفقهي في حال واجهت أمرًا مستجدًا. فدور الممارس هنا هو إخبار الفقيه بالظروف وتنفيذ ما يفتيه به الفقيه، دور سلبي. بينما في الأخلاقيات، يحض الممارس على أن يمارس دورًا إيجابيًا في الاستنباط من المبادئ الأخلاقياتية إذا ما وُوجه بمستجدات، ليس بإلغاء دور الفقيه، وإنما بالرقابة عليه وعلى غيره من العوامل حتى يحاول الممارس ضمان عدم اختراق المبادئ الأخلاقياتية بقدر ما أمكنه. وقد يحدث أن يتعرض المهني لموقف تستدعي منه الأخلاقيات أن يتصرف تصرفًا معارضًا للقانون! كأن يطلب القانون من الطبيب أن يعطي جرعة دوائية قاتلة لمحكوم بالإعدام بينما تستدعي منه الأخلاقيات الطبية حفظ الحياة بغض النظر عن مدى الاعتقاد باستحقاق الشخص للحياة!
ومن مآزق المقرر، أن خطابه يستثني مزاولي المهنة لغير المسلمين، وهذا المأزق ليس حصرًا على المسلمين، فقَسَم أبقراط القديم يتضمن القسم بآلهة اليونان آنذاك لاستحضار النوازع الدينية المؤثرة في السلوك، فمن الصعوبة بمكان إيجاد منظومة أخلاقية يتبناها البشر قاطبة، فالأخلاق، والأخلاقيات، ليست جينات بشرية مشتركة. المثير للاهتمام أن الحضور الديني الكثيف لم يكن أصيلاً في تراث الأخلاقيات الطبية العربي، فأول كتاب ألف في التراث العربي، والعالمي على حد سواء، في أخلاقيات الطب كان قبل ألف عام، وهو كتاب الطبيب اليهودي إسحاق الرهاوي «أدب الطبيب»، الذي كانت أكثر مصادره من الفلاسفة المعاصرين له والقدماء، خصوصًا جالينوس الذي فُتِن فيه، وبالرغم من حضور الدين في نصوصه، إلا أنه لم يكن مبنيًا على النصوص الدينية. ومن طريف الاستطراد، أن ما حث الرهاوي على تأليف كتابه هذا، هو ضجره من سلوك الأطباء آنذاك، إذ خاف من نفور الناس من الطب بسبب سلوكيات هؤلاء الأطباء!!
بينما للأخلاقيات في العالم الغربي تاريخ آخر. فالسمة الواضحة لملامحها الرئيسية هو تفادي تكرار الأخطاء، أو قل الكوارث. يبدو أن أول كتاب غربي ألف خصيصًا لهذا الموضوع كان من قبل الإنجليزي توماس بيرسيفال عام 1803م بعنوان «الأخلاقيات الطبية». بعد ذلك بعقود، ومع تطور العلوم وبالذات علم الجينات، سادت ثقافة «النظافة العرقية»! في الغرب، على أنها ضمن الجسد العلمي، وراح علية القوم يدعون العلم إلى دراسة أسباب تمايز الأعراق بيولوجيا! فهذا كاتب إعلان الاستقلال للولايات المتحدة وأحد آبائها المؤسسين توماس جيفيرسون ينظر بأن سواد بشرة السود سببه سواد دمائهم مستحثًا العلم على أن يكشف أسباب عدم امتلاكهم لوظائف العقل العليا كما يفعل البيض، قبل أن يتراجع عن موقفه العنصري على إثر تفاعله مع سود سمحت لهم ظروفهم بالبروز العقلي كالرياضياتي بنجامين بنكر. تفرع من هذه الثقافة قانون نورمبرغ «وهي مدينة في ألمانيا» النازي المتضمن قانون حماية تكافؤ النسب أو تكافؤ العرق الذي ينص بتحريم الزواج بين العرق الآري وغيره للحفاظ على طهارته. تمادى النازيون شيئًا فشيئًا، حتى شرعوا في عمليات تعقيم إجبارية للمصابين بأمراض ما حتى لا يتناسل هؤلاء في نظرة جديدة للشفاء الاجتماعي بإلغاء هذه الأمراض بعدم السماح للمصابين بها بالتكاثر، انطلاقًا من سببية جينية حصرية. فتم تعقيم أكثر من ثلاثة ملايين مريض، بين أعمى وأصم ومصاب بأمراض نفسية ومصاب بأمراض عصبية انحلالية ومصاب بالصرع وغير ذلك. وبالرغم من قناعة هتلر بأن قتل هؤلاء أجدى، حتى من ناحية اقتصادية، فالمصحات النفسية والعناية الطبية ذات كلفة باهظة غير مجدية اقتصاديًا! إلا أنه انتظر خوفًا من عدم جاهزية الرأي العام، حتى واتت الفرصة: حينما أوعز لطبيبه الخاص كارل برانت بالنظر في التماس تلقاه من أبوين لمولود أعمى ما تجاوز العام الواحد لكنه ظل يعاني منذ ولادته من إعاقات عدة، فطلب والديه أن يسمح لهما بأن يُقتل طفلهما قتلاً رحيمًا تخليصًا لمعاناته التي ستدوم سنوات طوال إذا لم يقتل، بحسب أبويه! فتم قتله، بل وفتح ذلك الباب لقتل ما يقدر عدده مئتي ألف مريض، قتلاً رحيمًا! إجباريًا! ولن تجهد أبدًا أن تجد ذات السلوك في الأبحاث الطبية، فمدير قسم طب الطيران في المعهد الألماني التجريبي للطيران، سيقفريد راف، قام مع زملائه بتجربة، وهي محكمة من ناحية منطقية علمية، على مساجين المعسكرات حيث عُرِضوا لضغط منخفض للغاية لمحاكاة ظروف الطيارين الحربيين في أعالي السماء، وإن لم يموتوا من هذه الظروف، يقتلون للحصول على أدمغتهم لتشريحها والحصول على المعلومات العلمية المرادة! وفي حين رفعت الولايات المتحدة الأمريكية، مع بقية دول التحالف، راية الأخلاق لاعبة دور السلطة الأخلاقية بعد هزيمة دول المحور بإقامة محاكمات نورمبرغ، بما فيها محاكمة الأطباء، إلا أنها قامت بتوظيف سيفيريد راف في دفاعها الجوي مستفيدة من خبراته حتى مات في ثمانينيات القرن الماضي!
وبالتزامن مع هذه المحاكمات المزمعة باسم الأخلاق، قام الجراح الأمريكي جون كتلر، في بحث مدعوم ماليًا من قبل المعهد الوطني الأمريكي للصحة، بإعدام عدد من البشر في غواتيمالا بالبكتيريا المتسببة بالأمراض الجنسية، إما بدفع الأموال للمومسات ليستهدفوا العينة المستهدفة للدراسة أو عبر التلقيح المباشر في الدم لاختبار فعالية الدواء لهذه الأمراض دون علمهم بذلك، ومات منهم بسبب ذلك ثمانون شخصًا. ثم إن تجربة أخرى ابتدأت في الثلاثينيات الميلادية كانت أكثر دلالة على اللاأخلاقياتية المؤسسية بل العنصرية المؤسسية كذلك من قبل حكومة الولايات المتحدة الأمريكية، حين استهدفت، بالتعاون مع جامعة توكسيحي في ولاية آلاباما ذات الأهمية التاريخية للأفارقة الأمريكيين، مزارعين سود في ريف ماكون، لدراسة المسار الطبيعي لمرض السفلس «دون التدخل العلاجي». كان ذلك دون إخبار المصابين، عينة الدراسة، بإصاباتهم، ودون علاجهم رغم توفر العلاج منذ الأربعينيات الميلادية، فمات مئة «مشارك». انتهت الدراسة في السبعينيات الميلادية على إثر تسريب صحفي كشف عن هذه الفضيحة مما أدى إلى تغيير سياسة الأبحاث الصحية كليًا في أمريكا، عبر إنشاء «مجلس المراجعة المؤسسية» المكلف بالنظر في كل الدراسات البشرية المقترحة قبل منح ترخيص الشروع بالدراسة، لضمان سلامة المبادئ الأخلاقياتية والقانونية. دعا ذلك فيما بعد بيل كلينتون للاعتذار باسم الحكومة الأمريكية حينما صار رئيسًا للحكومة. بل إن الولايات المتحدة الأمريكية كانت أسبق من النظام النازي الألماني في العمل بنظرية «النظافة العرقية»، فشرعت في عمليات التعقيم الإجبارية على المستهدفين من مواطنيها حتى أصيب خمسون ألفًا من مواطنيها بهذا الإجراء القسري!
في محاكمة قضية الولايات المتحدة الأمريكية ضد كارل برانت، طبيب هتلر الخاص المذكور آنفًا، وزملائه، كان الطبيب ليو ألكساندر من ضمن الادعاء العام وقد راعه ما سمع من المتهمين من حجج من قبيل عدم مخالفتهم القانون، وأنهم كانوا يعملون لصالح خير المجتمع قاطبة وإن كان على حساب تضرر بعض الأفراد، لذا سلم مذكرة تحتوي ستة مبادئ تخص البحث التجريبي على البشر لمجلس الولايات المتحدة الأمريكية لجرائم الحرب، ومن أهم هذه المبادئ هو الموافقة الإرادية المبنية على توفير المعلومات كافة للشخص المطلوب للتجربة. ذكرت هذه المبادئ، إضافة لغيرها خلال النطق بالحكم على المتهمين فيما عرف فيما بعد بشفرة نورمبرغ للأخلاقيات الطبية. بعد ذلك وفي عام 1964م في هيلسنكي بفنلندا، قدمت الجمعية العالمية الطبية «إعلان هلسنكي» الذي يتحدث باستمرار على أنه وثيقة أخلاقياتية عالمية تختص بالأبحاث التجريبية على البشر. وقد سبق هذا إعلان جينيف من الجمعية نفسها عام 1948م المهتم بمزاولة مهنة الطب نفسها ليس بالأبحاث.
فالأخلاقيات، وبالرغم من أن تطبيقها العملي لا يخلو من المآزق، إلا أنها ليست ترفًا فكريًا نظريًا. فطبيعة التطور اليوم تحتم على الأطباء والعلماء الاستمرار في مواجهة مواقف معضلة أخلاقيًا: فهل ستكون هناك مشروعية لاستنساخ البشر في المستقبل؟ ماذا عن المزج بين البشر وغيرهم من الأجناس الحيوانية؟ فقد تمكن علماء صينيون من مزج مواد جينية بشرية مع مواد جينية لأرنب في مرحلة التخلق، واستقر هذا الخيمر لفترة ما في سابقة علمية، تلتها محاولة ناجحة مثيلة لكن مع مواد خنزير جينية. منعت الحكومة الأمريكية هذا النوع من الأبحاث بالرغم من آمال بعض العلماء أن تمكن هذه التقنية من إيجاد بنك متوفر من مخلوقات ما تحتوي على الأعضاء البشرية المطلوبة للزراعة، إن كان قلب أو كلية وما إلى ذلك، تحت خدمة البشر متى احتاجوا دون الحاجة للانتظار لموت شخص ما متبرع بالأعضاء ليحصل على أعضائه المحتاجين، الذين قد يتوفون أثناء انتظارهم إذا لم يسعفهم الوقت. لكن ما هو المنتج النهائي لهذا المزج، أهو حيوان بحقوق حيوان؟ أو بشر بحقوق البشر؟ أو نوع ثالث تمامًا بحقوق مختلفة؟.... وماذا عن المزج بين الآلة والإنسان في صميمه المادي، الدماغ والأعصاب؟ فنحن نرى الآن تطور التقنية بتقديم أطراف صناعية تمكن المبتور ليس فقط من استرجاع خاصية الحركة بتحريك هذه الأطراف، بل محاولة استرجاع خاصية اللمس والإحساس بهذه الأطراف وكأنه جزء بيولوجي من الجسد! ثم هل سيتمكن الثري الحالم والغريب، إيلون ماسك، من النجاح في حلمه الذي شرع في محاولة تحقيقه عبر تأسيسه شركة نيورالينك Neuralink ضامًا في فريقه العديد من العلماء حتى يربط الدماغ بالشرائح الإلكترونية لتطعيم الدماغ بقدرات حاسوبية، في الذاكرة مثلاً؟ وإن فعل، كيف سيسهم ذلك في تكوين مشهد جديد على البشر حيث القادر على الحصول على هذه التقنية يكون إنسانًا من نوع آخر، أو هجين بين البشر والروبوت؟! أمام هذه الأسئلة ومثيلاتها، يتجلى دور الأخلاقيات في محاولة توجيه العلم حتى لا يُترك على عواهنه دون التمييز بين النافع والضار منه على البشر كمجموع وأفراد، ومن ثم على هذا الكون الذي يقطنه البشر.