تَعَجَّلَتَ الرَّحِيلَ يَا أَبا عَليٍّ
تعلقتُ بالأستاذِ والمربي والأبِ عبدالله الخميس «أبي علي»؛ منذُ أمدٍ بعيدٍ يعودُ لأكثرِ مِنْ ستةِ وثلاثينَ عامًا، عندما كُنا في حجِ عام 1407 هـ، ففي حجِ ذلكَ العام؛ أُصبتُ بوعكةٍ صحيةٍ «ضربةُ شمسٍ»؛ ونحنُ على صعيدِ عرفاتٍ، كَانَ عمري حينها لَمْ يتجاوزْ السبعةَ عشرَ عامًا، تدفقتُ إنسانيتهُ المعتادةُ نحوي ونحو كل مَنْ يحتاجَ لذلك، فهو لنْ ولمْ يتأخرْ في مدِ يدِ المساعدةِ والعونِ لكلِ مَنٌ يحتاجهُ، فلستُ أنسَ مرافقتهُ ليإلى المشفى الميداني طيلةَ ذلكَ اليومِ، شعرتُ بالأمانِ والطمأنينةِ لوجودهِ معي والقرب مني، وبعد عودتنا مِنْ المشفى، ظلَ يتابعني ويراعيني ويضعَ أكياسَ الثلجِ على رأسي وجسمي كالأبِ الرحيمِ والعطوفِ وهو كذلك قولاً وفعلاً، ولم نرجعْ إلا في وقتٍ متأخرٍ مِنْ نهارِ ذلكَ اليومِ، لم تتغيرْ آلية التعامل معي طيلة مرافقتهِ لي بالاهتمامِ والمتابعةِ والدفءِ الذي غمرني بهِ، لإدراكهِ ووعيهِ في أَنْ ما قامَ بهِ مِنْ عملٍ هو يسمو على ما نحنُ فيهِ حينئذٍ في أهميةِ الوقوفِ في عرفةٍ وهو يومُ التاسِعِ مِنْ ذي الحجةِ، حيثُ يجبُ فيهِ على الحجاجِ أَنْ يقفوا في عرفةِ مِنْ الظهرِ حتى وقتِ الغروبِ، ويُعتبرُ هذا اليومُ مِنْ الأيامِ المهمةِ عندَ المسلمينَ، وقد ذُكرتْ أهميتهُ في كثيرٍ مِنْ الرواياتِ وهناكَ أعمالٌ مستحبةٌ لهذا اليومِ، ومنها: الدعاء، والاستغفار وزيارة الامام الحسين ”“، وقراءة دعاء عرفة، إنَّ الوقوفَ بعرفةٍ الركنُ الأساسُ في أعمالِ الحجّ، فقدْ وردَ عن النبيّ ﷺ وهو يبيِّن ذلك: ”الحجُّ عرفاتٌ، الحجُ ّعرفاتٌ، الحجُّ عرفاتٌ“
فإنقاذ روحٍ أو إسعافِ مريضٍ عند اللهِ مقدمٌ على ما لذلكً اليوم مِنْ أهميةٍ ومكانةٍ.
وامتدتْ متابعتهُ لي لوقتٍ ليسَ بالبعيدِ، فعندما القاهُ بعد ذلكَ، أجد نفسي حائرًا، أي كلماتِ التقديرِ والحبِ يمكن أَنْ أقولها لهُ لتفيهِ حقهُ عليّ؟!، غيرَ مبادلتهِ الاحترامِ وتقديم المودةِ في كلِ مرةٍ ألقاهُ.
إنسانيتهُ وعطفهُ لا يمكنَ وصفهما، يأسرُ القلبَ في حديثهِ، تتدفقُ منهُ الاراءُ السديدةُ، والنظرةُ الواقعيةِ للحياةِ، فهو بحقٍ مهندسٌ في بناءِ العلاقاتِ الانسانيةِ، فهو الشهمُ والمبادرُ في أحلكِ الظروفِ وأقساها، وصلهُ لنا في جميعِ مناسباتنا في أفراحنا وأتراحنا، لا ينتظرُ مٍنا ردَ جميلٍ أو مقابلةٍ بالمثلِ.
أبا علي، تعجلتَ الرحيلَ يا مَنْ ملكتَ قلبي وشعوري، لَكَ رمزيةٌ رسمتها في مخيلتي ووضعتَ لنفسكَ مكانةً في ذهني لا يمكنُ أَنْ تزولَ، وهكذا هو حالكَ مع كلِ مَنْ أرتبط معكَ بنسبٍ أو سببٍ.
تَعَجَّلَتَ الرَّحِيلَ يَا أَبا عَليٍّ، لم يمهلني الأجل المحتوم الذي نزلَ بكَ؛ في أَنْ أطبعَ قبلةً على جبينكَ وأقولَ لَكَ: لما لَمْ تتركَ لي فرصةً أَنْ أقولَ لَكَ شكرًا؟!
يا صاحبَ الطلةِ الجميلةِ والبهيجةِ والاحساسِ المرهفِ والمعلمِ والأبِ، والمثقفِ والحكيمِ؛ صاحبِ الرأي السديدِ، والمطلعِ على مُجرياتِ الأمورِ بوعيٍ واتزانٍ.
تَعَجَّلَتَ الرَّحِيلَ يَا أَبا عَليٍّ، هل كنتَ مريضًا؟!
تمنيتُ أَنْ القاكَ واستمع لَكَ، فكم كنتُ أحبُ أَنْ استمع لَكَ دومًا! فأنتَ تقرأ أحاسيسي وتكتشفُ توجهاتي، وتضعني دائمًا على الجادةِ، كم كَانَ والدي - رحمهُ اللهُ ورحمكَ برحمته - يضعكَ في موضعِ الاحترامِ والتبجيلِ بما أنتَ أهله وتستحقهُ.
أَبا عَليٍّ، تَعَجَّلَتَ الرَّحِيلَ؛ لكنْ لا نقولُ ذلكَ؛ لكنْ نقول إنَّ إرادةً مِنْ الله قدرتْ، ورحمةً منهُ شاءتْ، أنْ اختاركَ لجوارهِ ومجاورةِ أحبائهِ محمدٍ وآلهِ.
ولا نقولُ إلا ما قالهُ اللهُ لنبيهِ محمدٍ صلىَّ اللهُ عليهِ وآلهِ حينَ قالَ عزَ مِنْ قائلٍ: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ﴾ «الزمر - 30»
نسألُ اللهَ لَكَ يا أبا علي الرحمةَ والمغفرةَ وأَنْ يَكُونَ رزقكَ مِنْ اللهِ سِدْرٍ مَّخْضُودٍ، وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ، وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ، وَمَاء مَّسْكُوبٍ، وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ، لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ، وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ.