علَّةُ الكتابة النمطيَّة ومعلولُها
- «علَّة / معلول» ما هذه الألفاظ..؟!.. أراك تصر على النهل من التراث الفلسفي والعقلي على نحو العموم، وكأنك تريد أن تلمح من بداية حديثك حول النمطية إلى كونك مرتهناً لها وأنت تتناولها كظاهرة متسعة الرقعة في الكتابة..، أليس كذلك؟
- لا يا أخي؛ فاستعارة الألفاظ والمصطلحات التراثية لا تؤدي إلى الوقوع في فخ النمطية، خصوصاً ونحن نعلم أن الكلمة بأقسامها الثلاثة ذات دلالة تعيُّنية، وليست الدلالة المذكورة مقتصرة على الحرف، ولم تكن المعاني المتنوعة لحروف المعاني وللأفعال وللأسماء سوى منتزَعات الدلالة السياقية، فلا تكن عجولاً في إصدار الأحكام.
- سأفعل لكن هل تطلعني على سبب نمطية الكتابة أو علتها.؟
- العلة مركبة، لكني سأشير إلى جزئية مهمة فيها.
- تفضَّل..
- إنها علة تعود إلى نفسياتنا التي وطَّناها على التلقي والقبول السلبيين؛ مما أبعدنا عن امتطاء لجج الإبداع ونشَّط فينا الجنوح نحو النمطية في تنظيراتنا، والانطلاق منها في تطبيقاتنا، فتلبسنا بها ذلك التلبس وزيَّنت لنا أنفسُنا أن نركب كلَّ مركب وبما يلفظُهُ الأغيار نرَغب.
- سجع نمطي... ههه..! «أقولها في سري»، وكيف نعالج نفسياتنا، فتشفى من علتها؟ «أسألُ جهراً صاحبي»
- علينا أن نستطلع التراث استطلاعاً واعياً، ونقرأ سيرة كل مبدع وُصِف وصفاً حقيقياً لا إطرائياً بأنه نسيج وحده، وندرس حركته الإبداعية في ضوء تلقيه الأمواج العاتية من النمطيات، واقتداره على مواجهتها وصدها، ومحاولة الاستفادة من تجربته في ذلك؛ فاستحضار التجارب الإبداعية والاستفادة منها يعتبر خطوة في طريق الخروج من مستنقع التنميط.. كما أننا ينبغي علينا أن نفرق بين الاجترار النمطي وبين الاستحضار التوظيفي، وبين المؤتلف شكلاً والمختلف دلالة؛ لكيلا نقع في خطأ التشخيص، وهو من مصدات الإبداع التي تلعب دوراً في تمدد النمطيات.
- كأنك سمعت ما في داخلي في مسألة السجع..! «أقولُها في سري أيضاً»..
وعلينا أيضاً، «فعلينا» الأولى لم تشف غليلي على ما فيها من شفاء، فهل من «علينا أيضاً»؟
- وعلينا أيضاً أن نجعل «فتاة الحي وغانيتها تطرب»، فنستنهض طاقاتنا لتُصرَف في الاستيلاد الإبداعي المنبثق من عندياتنا لا أن نكون مجرد صدى لصوت لم يخرج من حناجرنا فنجهد في تقليده والخضوع لاشتراطاته.
- هذا وجه من وجوه العلة فهل من وجه لمعلولها؟
- مادامت العلة موجودة فهي لا تتخلف عن إنتاج معلولاتها، ودونك النمطيات التي تراها تتناسل، فنمطية تطيل المكوث ثم تغادر لتحلَّ محلَّها أخرى وإن بدت اللاحقة مختلفة عن السابقة، ذلك أن الاختلاف كثيراً ما يطال المصاديق التي تبدو كالمشتقات المتنوعة والعائدة إلى مصدر واحد هو العلة المسؤولة عن تعميق التنميط واستمراره.
- ألا تُشَخِّص؟
- من الجميل أن نجعل حوارنا محركاً للأذهان ونترك التشخيص لكل ذي مجال ثقافي ينطلق منه في وضع النقاط على الحروف ويحدث نفسه و«فتيات حيه» في السعي إلى استمطار ديم الإبداع التي تجعل حروف كتاباتنا نابضة وتبعث فيها الحياة.
- أحسنت لقد أسعدتني وبعثت في نفسي النشاط والحيوية والتحفُّز للعمل الإبداعي، وأنا من هذه اللحظة سأكرر مَثَل «فتاة الحي» وأرويه ولكن بإسقاط «لا» منه وأعاهدك على ذلك.
- وأنت من المحسنين، وتصرفك في المثل السائر ما هو إلا ثمرة سريعة من ثمار حوارنا، فالتغيير فيه بحذف «لا» يدخل في إطار الإبداع وكسر النمطية بلحاظ جلب المنفعة ودفع مضرته المولدة للإيحاءات السلبية قبل التصرف فيه وقبل تغييره.
- ومسك الختام؟
- ومسك الختام، قلتَ: ومسك الختام..
أرى أنه من المطلوب ومن المرغوب جدّاً، ومن المحتَّمِ علينا - أخا الخاطرِ والروحِ - ولا بد لنا من أن نوطن أنفسنا على امتطاء صهوة الإبداع وأن يستعد كل واحد منا ليلتفت إلى كل فتاة من غير الحي تدعونا إلى التلقي السلبي المنتهي بداء التنميط ويقول لها:
”إن يك ذا بتٌّ فهذا بتِّي...“
- يومُ الخميسِ غيرُ يومِ السبتِ
- ههه..!، ألم أقل لك إن الروح الإبداعية وكسر النمطية بدأت تدب فيك؛ فقبل قليل تصرفت بحذف «لا» من المَثَل السائر، والآن تصرفت بإضافة شطر لمثلنا السائر هذا أيضاً.
- وأقصد من خلال الشطر الذي ارتجلتُه الآن أن أقول أو أضيف معنى جديداً للبيت «المثل السائر» الذي ذكرتَه لي..
- تفضل، فأنا أسمع، بل أستمع.
- أقول بما أن هناك مغايرة بين الأيام ولو على صعيد التسمية، فإنه ينبغي أن تكون لنا ملامح إبداعية بها نُصيِّرُ من ظروف الأيام أوعيةً لها فلا نتنمَّط باجترار ما لدى الأغيار ولا تتنمَّط بنا الأيام.
- الله الله ما هذا الإبداع..!
- الله الله عليك وأنت ملهمي بالإجماع..!
- وهل مِن نَفَرٍ معنا حتى ينعقد الإجماع؟!
- قلبي وعقلي وسمعي وجوارحي كلها..!
- هههه..!، ذكرتَ القلب والعقل والسمع، فهل تريد أن نستأنف حواراً جديداً حول منبثقات المعرفة ومصادرها، ثم نتطرق إلى تداولها كأنماط ونعالجها معالجة إبداعية بقدر استطاعتنا؟
- من الأجدر ألا نشخِّص كما قلتَ وأقنعتني فيما قلت، ومن الأحجى أن نترك لكل ذي مجال ومسلك معرفي وثقافي مجاله الاختصاصيَّ؛ ليخوض فيه خوض المقتدر الواعي، لا خوض المقلَّد الساعي لاكتساب صيت لحظي له ما للنمطيات من مقدار عمر وحياة..
- الله الله لقد آتى الحوار ثماره.!
- الله الله عليك لقد آتى ثماره الحوار
لقد آتى ثماره الحوار..!!