النشاط الثقافي غير الربحي: الفرص والتحديات
لا تزال النظرة مشوشة حول الدور الاجتماعي والتنموي للقطاع الثقافي الغير ربحي، وخاصة في منطقتنا العربية باعتبار أن العمل الثقافي بشموليته وتمظهراته المختلفة كان ولا يزال محكوما إداريا وتمويليا وتسويقيا من قبل القطاع العام «الحكومي»، على الرغم من التطور الملحوظ لدور مؤسسات المجتمع المدني في مختلف دول العالم بشكل عام واستحواذها على مساحات أوسع لتتكامل مع مؤسسات القطاع العام والخاص لتحقيق مشاريع اجتماعية تنموية متكاملة. هذا التحول المتسارع في العالم لم يدفع بالمؤسسات الأهلية والمدنية في مجتمعاتنا العربية - وخاصة المشتغلة في الشأن الثقافي - بالتقدم بنفس السرعة في النمو والتطور، فقد ظلت معظم هذه المؤسسات عاجزة عن مواكبة التحولات الاجتماعية والثقافية وتقديم ما من شأنه أن يسهم في زيادة الوعي والمعرفة، وأصبحت في العديد من أدوراها نسخا مكررة لما تقوم به المؤسسات الثقافية الرسمية.
في البدء ينبغي التأكيد على أن أي استراتيجية ثقافية أو مشروع نهضوي يحتاج بكل تأكيد كي يحقق أهدافه إلى الاستناد على ركائز القطاعات الثلاثة القائمة في أي دولة؛ وهي القطاعات العامة والخاصة والغير ربحية «الثالث»، وهذا الاسم - أي القطاع الغير ربحي - هو تعريف يتم إطلاقه على كل المؤسسات والجمعيات، وأيضًا المنظمات والأنشطة المدنية والأهلية والخيرية غير الحكومية والتي لا تهدف إلى الربح. ويُعد هذا القطاع مكملا لكافة مهام القطاع الحكومي الأول، كما أنه يتكامل مع النوع الثاني الخاص والربحي، ونشأ هذا المجال مُتأخراً إلى حد ما عن القطاعين الأول والثاني، وذلك في بداية حقبة الثمانينيات من القرن المنصرم، حيث بدأ هذا القطاع في الظهور بقوة كبيرة إدارية واعتبارية. ولا شك أننا جميعا ندرك الأهمية البالغة لمشاركة القطاع الغير ربحي في مختلف البرامج والخطط التنموية وعلى رأسها المشاريع الثقافية المختلفة، لأسباب عديدة منها أنه يعزز الاستدامة في هذه المشاريع لارتباطها بالمستفيدين النهائيين مباشرة، وأن مجال التطوير والإبداع في العمل الثقافي سيكون أوسع بكثير عندما يكون متاحا لعموم الكفاءات وذي المهارات، كما أن الشراكات المجتمعية وإبراز المخزون الثقافي والموروث الشعبي يمارس بشكل اعتيادي دون أي تكلف أو رسمية.
من هنا بدا الاهتمام بالمجال الثقافي - بمختلف أبعاده - كرافد مهم لبرامج التنمية المستدامة، وتطوير استراتيجيات تسهم في خلق شراكات بين مختلف القطاعات الثلاثة كي تتكامل فيما بينها لتحقيق الأهداف التنموية. فاشراك القطاع الغير ربحي في المشاريع الثقافية يجعل من المنتج الثقافي اصلب عودا وقوة وتوسعا، ويمكنه من استقطاب فئات اجتماعية تنخرط في العمل الثقافي ضمن آليات بسيطة وتفاعلية، مما يعني زيادة الوعي والقدرة على التفاعل مع مختلف المنتجات الثقافية القائمة.
لعل من أبرز التحديات القائمة في هذا المجال هي نقص المعلومات المحدثة عن واقع النشاط الغير ربحي في المملكة، وخاصة في المجال الثقافي من ناحية أعداد المؤسسات والمشتغلين فيها، وامكانياتها المالية من ناحية الإيرادات ومصادرها، وقدرتها على الاستمرارية، وانتاجها الثقافي العام. وتشير دراسة نشرتها الهيئة العامة للإحصاء تحت عنوان ”نتائج مسح منشآت القطاع غير الربحي 2018م“ إلى أن نسبة مؤسسات الثقافة والترفيه لايزال متدنيا جدا، حيث بلغ «2,69%» من مجموع المنشآت الغير ربحية فقط، مقابل «37,07%» للخدمات الاجتماعية، و«22,82%» لمنظمات الدعوة والإرشاد والتعليم الديني، كما تشير الدراسة ذاتها إلى أن اجمالي المشتغلين في مؤسسات الثقافة والترفيه يأتي في مرتبة متدنية «المرتبة 8 من أصل 10 قطاعات» ونفس الترتيب من ناحية أعداد المتطوعين فيها. وهذا بلا شك يعني أن دور القطاع الثقافي الغير ربحي لا يزال محدودا في العملية التنموية واستقطاب القوى العاملة وبالتالي الاسهام في الناتج المحلي.
من المؤكد أن هناك أسبابا عديدة أسهمت في ضعف دور القطاع الثقافي غير الربحي تتمثل في ضعف البنى التحتية لهذه المؤسسات بحيث تكون قادرة على الاعتماد على ذواتها بصورة مستقلة وإنتاج مواد تسويقية قوية وقابلة للمنافسة، وكذلك تأخر وضعف الأنظمة والبيئة القانونية الحاكمة لمؤسسات القطاع غير الربحي بحث تكون مواكبة للتحولات الاجتماعية وتمتاز بالمرونة والحيوية، وغياب الحوكمة والشفافية عن الكثير ن هذه المؤسسات مما يجعلها عرضة للتداخلات وسوء الإدارة والتنظيم أو التوقف، وقلة مشاركة افراد المجتمع في العمل الثقافي وضعف الوعي بذلك. وبالإضافة لهذه الأسباب، فإن هناك أسبابا ثقافية وتنظيمية أيضا حيث أن استعداد معظم أفراد المجتمع للمساهمة في البرامج والأنشطة الخيرية والدينية والاجتماعية أعلى بكثير منها في الأنشطة الثقافية، إضافة إلى الصورة الذهنية السلبية عن القطاع غير الربحي باعتباره منافسا للقطاع العام أو ربطه بأجندات مستقلة. وتمتد هذه الصورة الذهنية عن القطاع الثالث لتصوره كقطاع رعوي مستهلك وغير منتج مما يعني ضعف الإقبال على العمل بمؤسساته وإحجام أو تردد القطاعات الأخرى في التعاون معه لاهتزاز الثقة في مقدراته.
هذه العوامل تشكل أبرز التحديات التي تواجه القطاع غير الربحي بشكل عام والثقافي بشكل خاص، حيث أنه من المهم جدا استيعاب الأنشطة والمؤسسات الأهلية القائمة وتمكينها من أداء دورها ورسالتها بالتكامل مع مختلف المؤسسات والجهات الرسمية ذات العلاقة بالشأن الثقافي. ومن الواضح أن التحولات الكبيرة التي نشهدها قد أسهمت في إعادة النظر لدور القطاع الثقافي غير الربحي، حيث نشهد إعادة صياغة لمفهوم دور هذا القطاع ولنماذج جديدة وابداعية من الشراكة بين القطاعات الثلاثة ضمن استراتيجية وزارة الثقافة للقطاع غير الربحي، حيث أن مضامين المبادرات والبرامج التي تم الإعلان عنها من شأنها أن تغير الواقع الموجود لواقع مختلف يبدو أكثر جاذبية وقدرة على احداث حالة من الفاعلية الإيجابية في المشهد الثقافي.
لعله تجدر الإشارة إلى بعض العوامل التي من شأنها أن تسهم في تعزيز العمل المشترك بين القطاعات الثلاثة، من بينها إرساء مبادئ العمل والتعاون بين هذه الجهات من خلال اللقاءات والحوارات البناءة كي يكون هناك تفهم ووضوح لحدود الدور التي يمكن لكل جهة القيام به، وتنسيق الأدوار بين مؤسسات هذه القطاعات المختلفة. كما أنه يمكن تفعيل دور المؤسسات الثقافية الأهلية من خلال إعداد برامج تأهيلية للقائمين عليها من اجل تحسين التنظيم والحوكمة فيها كي تكون قادرة على المواكبة، وذلك من خلال تدريب الأفراد المشتغلين فيها وتعريضهم لتجارب ناجحة مماثلة، وضبط الجوانب المالية والإدارية فيها.
ومما لا شك فيه أن هناك حاجة ماسة لخلق وسائل تحفيز للقطاع الثقافي غير الربحي كي يتمكن من مواجهة التحديات التي تواجهه كحالة الرقابة على المعونات المالية على سبيل المثال وارتفاع تكاليف العمل والأنشطة، وهو من الأمور المعمول بها من خلال صناديق الدعم الثقافي والتسهيلات المالية، وخلق شراكات بين المؤسسات الثقافية الرسمية وشبيهاتها الأهلية كي تستفيد من الإمكانيات المتاحة، والتنسيق في بعض البرامج والفعاليات.
إن أمام القطاع الثقافي غير الربحي في هذه المرحلة فرصا عديدة تمكنه من تجاوز اخفاقات وتحديات المراحل الماضية والانطلاق نحو دور فاعل يمكنه من المساهمة بفاعلية في المشاركة في تحقيق أهداف الاستراتيجية الثقافية بالمشاركة مع القطاعية الآخرين، واستفادة من التطورات التي تمت على المشاريع الثقافية الوطنية.