آخر تحديث: 23 / 11 / 2024م - 12:36 ص

الفلسفة وفكرة الحوار

الشيخ زكي الميلاد * مجلة الحوار

تحتفظ الفلسفة بسيرة طويلة مع الحوار فكرة وطريقة، ترتد هذه السيرة إلى الأزمنة القديمة، متصلة بعظماء الفلسفة اليونانية، وفي طليعتهم سقراط «470-399 ق. م» وتلميذه الكبير أفلاطون «427-348 ق. م». فقد عرف عن سقراط واشتهر بالحوار متخذا منه نهجا للتعليم، وأسلوبا للتأثير، وطريقة للتواصل الفكري والاجتماعي، متفردا بهذه الطريقة الحية والفعالة التي تحولت عنده إلى نمط حياتي، متحددا في ممارسات يومية، ظل مندفعا إليها برغبة شديدة، مجسدا سيرة أعظم شخصية حوارية في تاريخ الفلاسفة قديما وحديثا.

لم يكن سقراط صاحب مدرسة تحصر مكان تواجده، وتمثل له منصة للتعليم، وإنما كان حسب وصف الدكتور طه حسين «1306-1393 هـ /1889-1973م» في كتابه: «قادة الفكر» مدرسه متنقلة، لا ينتظر الناس يأتون إليه، وإنما كان يذهب إليهم، لا لشيء إنما ليتحاور معهم، متطارحا الأسئلة والأجوبة، شارحا المعاني والمفاهيم الأخلاقية والفلسفية، متنقلا في محاوراته مع الشباب وغيرهم ما بين الساحات والميادين والطرق العامة، وكذا في الأسواق والملاعب الرياضية، وحتى في أروقة المسابح والحمامات العمومية. وبقي ملتزما بهذا النهج التحاوري ولم يتخل عنه حتى وهو في داخل السجن ينتظر محاكمته، فقد كان الشباب يذهبون إليه لزيارته وليتحاوروا معه، متعلقين بشخصه، ومتأثرين بحكمته، مقدما مثلا يضرب به في العلاقة بفكرة الحوار بأعلى درجاتها.

واستمرت علاقة الفلسفة بفكرة الحوار بعد سقراط وتطورت مع تلميذه الكبير والنجيب أفلاطون الذي نقل الحوار والتحاور من البيان اللساني على طريقة سقراط إلى البيان الكتابي، ومن الوضع الشفهي إلى الوضع التدويني، ومن الخطاب الاجتماعي العام إلى الخطاب النخبوي الخاص، متحددا فيما بات يعرف بمحاورات أفلاطون، متأثرا بأسلوب أستاذه سقراط، ومتابعا نهجه، ومحافظا على سيرته، مرسخا وجوده اسما وحكمة.

اعتمد أفلاطون طريقة التحاور في معظم تأليفاته التي قدرها البعض بستة وثلاثين كتابا، متميزا بهذه الطريقة في التدوين ومتفردا بها، متخذا من سقراط رمزا ناطقا عن أفكاره ومقالاته، مقدما أدبا فلسفيا تحاوريا، موثقا علاقة الفلسفة بالحوار، كاشفا عن الطبيعة التحاورية للفلسفة، وكيف أن الفلسفة وجدت في الحوار والتحاور أسلوبا مفضلا في التعبير عن نفسها، وبيان مناقبها، وشرح مقولاتها.

من بعد أفلاطون اتبع أرسطو «384-322 ق. م» في تأليفاته الأولى طريقة التحاور الأفلاطونية، لكنه لم يستمر عليها، مفضلا على ما يبدو أن يظهر متمايزا عن أستاذه أفلاطون، منتخبا لنفسه طريقة مختلفة أراد منها تحقيق ذاتيته الموهوبة والمتفوقة، وحصل له ما أراد، واعترف له العالم بصفة المعلم الأول، وهي من أسمى الصفات وأشرفها في تاريخ الفلاسفة قديما وحديثا.

وبهذا تكون الفلسفة من أسبق العلوم والمعارف اختيارا لطريقة الحوار وتفضيلا لها، وذلك لكون أن الحوار هو أسلوب عقلاني، ينتهجه العقلاء ويعرفون به في جميع الأزمنة والأمكنة، وبين الملل والنحل كافة. فالإنسان العقلاني يعرف بالحوار ولا يعرف بضده، والحكيم لا يخشى من الحوار ولا يتحرج منه، ولا يترفع عليه أو يتعالى، بل يطلبه ويسعى إليه، ويجد فيه تذاكرا وتفاكرا.

من جانب آخر، أن هذه العلاقة المبكرة بين الفلسفة والحوار، أكسبت الحوار دعما قويا، مزودا بمناقب الفلسفة وفضائلها، وبتراثها المعرفي وثرائه، وبعظمة رجالها وحكمتهم، وبذلك أصبحت الفلسفة مرجعا تاريخيا مهما من مرجعيات الحوار، مرجعا تتأكد الحاجة إليه في كل آن، ولا يمكن الاستغناء عنه، فهو يعطي الحوار قوة المعنى، وبعد النظر، ورحابة الأفق.

ومن هذه العلاقة انبثق مفهوم الحوار الفلسفي، الحوار الذي يتلون بالفلسفة ويتحدد بها إطارا ومجالا، محتوا ومضمونا، متمايزا عن الحوار الديني أو الحوار الاجتماعي أو الحوار السياسي، وعن باقي أنماط الحوارات الأخرى التي تشترك جميعا من جهة الحوار أسلوبا وطريقة، وتتمايز من جهة المجال موضوعا ومعرفة.

والحوار الفلسفي له قواعده وأصوله المستمدة من الفلسفة، ويرتكز على الحجة والبرهان ويدور مدارهما وجودا وعدما، ومتى ما خرج عن البرهان فقد صفة الحوار الفلسفي، ولا يقوى على هذا النمط من الحوار إلا أهل البرهان، الذين يحسنون صنعة البراهين، ويتقنون هذا الفن معرفة ودراية.

مجلة الحوار - مجلة فكرية ثقافية فصلية سعودية، العدد 41، رجب 1442 هـ / مارس 2021م
كاتب وباحث سعودي «القطيف»